تصحو أوروبا متأخرة كثيراً على هزّة سياسية اجتماعية، هي الأكثر خطراً على ديمقراطياتها التقليدية، ويجتمع رؤساؤها الآن، لدراسة ما يمكن فعله، بينما هم تأخروا على الأقل 12 عاماً على إمكانية المعالجة، ففي عام 2002 هزّ زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة جان لوبين النظام السياسي الفرنسي بوصوله إلى الجولة الحاسمة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، الأمر الذي اعتبر تهديداً للديمقراطيات الأوروبية التقليدية ابتداءً من فرنسا، غير أن ذلك لم يؤخذ على محمل الجد، ولم تتخذ الخطوات السياسية والاجتماعية لإصلاح البنية الأساسية للمجتمعات الأوروبية التي اتجهت نحو الوحدة، من دون أن توفر أرضية صلبة من خلال الإصلاحات الداخلية لإبعاد الخطر العنصري اليميني المتطرف، وقبل شهرين بالضبط، جدّد الزلزال اليميني المتطرف فرنسا، كما أوروبا، عندما فازت ابنة لوبين وخليفته مارين، وزلزلت أركان الديمقراطية التقليدية عندما فاز حزبها برئاسة عدة بلديات هامة بنتيجة الانتخابات البلدية الفرنسية أواخر شهر آذار الماضي، وأيضاً لم يوفر هذا الزلزال أسبابا كافية للقيادات التقليدية للتفكير في مستقبل أوروبا على ضوء هذا الاختراق الذي بدأ في فرنسا ولكنه امتد إلى كل أوروبا تقريباً.
 
لذلك كله، لا يمكن اعتبار نتائج الانتخابات التي جرت قبل أيام للبرلمان الأوروبي، مفاجئة لأحد، إلاّ في شأن واحد تقريباً، أن الأحزاب اليمينية، وفي تحالف "بالصدفة" مع أحزاب ذات طبيعة عنصرية، ما أدى إلى رفض نسبي متوقع للوحدة الأوروبية من جهة، ورفض واضح "لملف الهجرة" من جهة ثانية، فقد أمكن الوقوف على العناصر الأساسية تمخّضت عنها نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، ويتمثل ذلك في أن الحملات الواسعة التي شملت كل أنحاء أوروبا لتشجيع الناخبين للتوجه إلى صناديق الاقتراع، قد فشلت في إقناع الناخبين، حيث أن أقل من نصف هؤلاء فقط قد توجهوا للإدلاء بأصواتهم، ما يعكس يأس المواطن الأوروبي من الأداء السياسي والاقتصادي للمفوضية الأوروبية، خاصة بالطريقة التي تمت بها معالجة الأزمة الاقتصادية التي شملت معظم الدول الأوروبية.
 
كما أن فوز اليمين المحافظ بنسبة تزيد عما كان الأمر عليه في الانتخابات السابقة، ربما يخوله أن يعين رئيسه رئيساً للمفوضية الأوروبية، لكن ذلك ليس مضموناً، لأن بإمكان الحزب ترشيحه، لكن القرار يعود لرؤساء دول الاتحاد الأوروبي، وليس للبرلمان الأوروبي، ولكن وفقاً لما هو معمول به في هذا السياق، فإن على الرؤساء "التعامل" بنتائج الانتخابات واتخاذها بالحسبان عندما يتم تعيين رئيس للمفوضية، خاصة وأن حزب الشعب الأوروبي حاز على 212 صوتاً من مجموع 751 مقعداً، بينما مرشح حزب الديمقراطيين الاشتراكيين قد حصل على 185 صوتاً فقط، ومن المؤكد أن الرؤساء لن يتجاهلوا هذه النتيجة حتى لو لم ترق لهم.
 
ومن النتائج المفاجئة أيضاً، صعود اليسار المتطرف، جنباً إلى جنب مع صعود اليمين المتطرف، ويلتقيان عند هدف تقسيم أوصال الاتحاد الأوروبي والعودة إلى ما كان الأمر عليه قبل الاتحاد الأوروبي، لكنهما يختلفان حول ملف الهجرة غير الشرعية، وصعود هذا المتوازي المتعارض هو الذي يشكل الهُويّة الجديدة لأوروبا حالياً، وهي حقيقة ما كان لها أن تشكل مفاجأة لو تمت قراءة فوز اليمين المتطرف والقومي في فرنسا قبل ست سنوات!!
 
المدّ اليميني المتطرّف، صاحبه انزلاق أوروبي نحو النازية الجديدة التي حققت انتصارات ملموسة قياساً بالانتخابات البرلمانية السابقة قبل خمس سنوات، ووصلت هذه الأحزاب إلى مستويات ومقاعد إضافية، في كل من ألمانيا واليونان والدانمرك، إضافة إلى فوز الجبهة الوطنية بربع المقاعد المخصصة لفرنسا.
 
هذا الانزلاق نحو اليمين، إذ يخيف القوى الديمقراطية التقليدية في أوروبا، فإنه يشكل هاجساً لعموم المهاجرين خاصة أن هؤلاء من الشرق الأوسط والمنظومة العربية، إلاّ أن أكثر الجهات تخوفاً وتوجساً هي (إسرائيل)، التي ربطت بين تزايد "اللاسامية" في أوروبا ومقتل يهوديين في المتحف اليهودي في عاصمة للاتحاد الأوروبي بروكسل في وقت متزامن مع الانتخابات للبرلمان الأوروبي، ومن الطبيعي أن تستغل (إسرائيل) نتائج الانتخابات لصالح دعوتها لليهود للهجرة "العودة" إلى (إسرائيل) من ناحية، والاستمرار في استغلال "اللاسامية" للتأكيد على أن (إسرائيل) هي دولة اليهود أينما كانوا.
 
غير أن (إسرائيل) وهي تستغل هذه المعطيات، تتجاهل تماماً، أنها أكثر الأنظمة الرسمية نازية وعنصرية، وفي حين أن هناك أحزابا نازية في أوروبا، إلاّ أنها لا تزال بعيدة عن أن تصل إلى قيادة هذه الدول، بينما (إسرائيل)، رسمياً هي دولة عنصرية بامتياز، ليس فقط في سياساتها المعلنة واليومية كدولة احتلال ضد قضية الشعب الفلسطيني، ولكن لسلوكها المتغوّل للتأثير على سياسات الدول الأوروبية والحرص على الإمساك بزمام الأمور السياسية والاقتصادية في تلك الدول، الأمر الذي خلق رأياً عاماً معادياً لليهودية ول(إسرائيل)، على المستوى الشعبي وليس فقط عبر المنظمات والأحزاب النازية، و(إسرائيل) إنما تحصد ثمار سياستها وتغوّلها من دون أن يشكل ذلك إعادة رسم هذه السياسة والاكتفاء بالتهم الجاهزة حول "اللاسامية"!!