في أيلول 2011 ستنطلق عملية سياسية جديدة في مسار قضية فلسطين، وستشهد هذه العملية محطاتٍ صعبةً من الصراع مع اسرائيل. لقد بدأ سباق المسافات الطويلة منذ الآن بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل والولايات المتحدة الاميركية. فقد أيقنت منظمة التحرير، بصورة نهائية، أن التفاوض المباشر أو غير المباشر مع اسرائيل ما عاد يمكن أن يؤدي الى أي نتيجة جدية في ميدان التسوية وقضايا الحل النهائي. وأيقنت أيضاً أن المقاومة المسلحة، في الشروط التي أطبقت على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، صار مردودها السياسي أقل بما لا يقاس من الخسائر التي يتكبدها المواطنون في كل مرة يسقط فيها صاروخ هنا أو قذيفة هناك.

ولا عجب أن تتبارى جميع المنظمات التي لا تنفك رافعة رايات المقاومة المسلحة في إعلان القبول ب "التهدئة العسكرية" كلما تحرشت منظمة ما بإسرائيل وأطلقت "صاروخاً" أو بضع قذائف على كثبان الرمل بالقرب من اسدود أو بئر السبع.

 

إن قرار الذهاب إلى الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحاولة انتزاع قرار حاسم بقيام دولة فلسطين الحرّة والمستقلة، ليس مجرد قرار تلقائي جراء فشل المفاوضات الفلسطينية- الاسرائيلية، أو جراء تناقص الغلة السياسية للعمل العسكري، بل هو خطة سياسية كان من المزمع تنفيذها في سنة 2000 بعد انصرام التاريخ المتفق عليه لانجاز الحلول في شأن قضايا الحل النهائي. وكانت سنة 1999 هي هذا التاريخ المفترض. ولما لم يتم التوصل إلى أي نتيجة في تلك السنة، أي بعد خمس سنوات على بداية التفاوض بحسب بنود اتفاق أوسلو الموقع في 13/9/1993، جرت محاولة وحيدة في قمة كامب دايفيد الثانية سنة 2000. ومع فشل هذه القمة اندلعت الانتفاضة الثانية فوراً. غير أن الاحداث التي وقعت في السنة التالية، أي تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11/9/2000، علاوة على محاولة تدمير البنتاغون، وما تبع ذلك من تداعيات هزت العالم كله، ولا سيما الحرب على أفغانستان، جعلت إمكان قطف الحد الأقصى من ثمار الانتفاضة غير ممكن. وهكذا دمرت اسرائيل مؤسسات السلطة الوطنية التي بُنيت بين 1994 و2002 بصورة منهجية، وتحت أبصار الدول المانحة التي بُنيت هذه المؤسسات بأموال دافعي الضرائب فيها، وحوصر الرئيس ياسر عرفات حتى استشهاده اغتيالاً. أما ما وقع بعد ذلك فقد غيّر الواقع الجيوبولوتيكي كله في المنطقة العربية: احتلال العراق في نيسان 2003، اغتيال رفيق الحريري في 14/2/2004 ثم خروج الجيش السوري من لبنان في 28 نيسان 2004، الحرب الاسرائيلية على لبنان في 12 تموز 2006، الانقلاب الدموي في غزة في 14/6/2007. إن هذه الأحداث وغيرها قلبت الواقع الجغرافي- السياسي في المنطقة تماماً، وأدت إلى صعود الدور الايراني في المنطقة العربية، وظهور دور تركي جديد أيضاً. ومما لا شكَّ فيه أنّ تلاحق هذه الأحداث جعل من غير الممكن أن تسعى منظمة التحرير الفلسطينية في النطاق الدولي لانتزاع قرار حاسم بإعلان قيام دولة فلسطينية، ولا سيما أن الأوضاع الذاتية الفلسطينية كانت قد بلغت من الضعف مرحلة قاسية، خصوصاً بعد الانقسام السياسي والجغرافي الذي ذرّ قرنه في حزيران 2007 في غزة. ولعل الفرصة الآن سانحة للسير في هذه الخطة التي كان يجب أن تبدأ قبل نحو عشر سنوات، علماً أن الذهاب إلى الامم المتحدة لا يعني مجرد انتزاع قرار عادي من الجمعية العامة، فثمة عشرات القرارات لمصلحة القضية الفلسطينية في أدراجها، ولا يعني مجرد جهد دبلوماسي وإعلامي لاحراج اسرائيل في مجلس الأمن على سبيل المثال، فالجميع يعرف أن الفيتو الأميركي متحفز لأي مشروع قرار ضد اسرائيل في هذا المجلس.

 

إنَّ الذهاب إلى الأمم المتحدة هو خطة سياسية متكاملة تتضمن تدشين حملة سياسية ودبلوماسية في النطاق العالمي للحصول على قرار يعتبر فلسطين بلاداً محتلة، ويعتبر اسرائيل، في الوقت نفسه، دولة احتلال. وسيترتب على هذا القرار حملة أخرى لترجمته إلى جدول أعمال سياسي يتضمن مقاطعة اسرائيل باعتبارها دولة محتلة في مختلف المجالات الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والعلمية، على غرار ما حدث لجمهورية جنوب افريقيا إبان الحكم العنصري فيها. ومن غير الممكن أن تنجح هذه الخطة ما لم تتطور الأحوال إلى تأسيس حركات مناصرة دولية لفلسطين في العالم كله، ولا سيما في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، على غرار حملة الحقوق المدنية للسود في أميركا في ستينات القرن العشرين، وما لم تتأسس في فلسطين نفسها حركة مقاومة مدنية شاملة للاحتلال تضع في رأس أهدافها صوغ معادلة واقعية وممكنة لاستعمال القوة ضد الاحتلال من غير استخدام العنف هذه المرة. ويُقصد باستعمال القوة تضافر جميع الامكانات والموارد البشرية والعلمية والاعلامية والسياسية والدبلوماسية لتطوير حركة مقاومة مدنية شاملة تعد العدة للوصول إلى العصيان المدني المستدام.

 

المتباري الثاني في سباق الجري للمسافات الطويلة هو اسرائيل التي تتسربل بالقلق في هذه الأيام. ومع أن اسرائيل تبدو "مطمئنة" ظاهرياً، وخططها في الاستيطان قائمة بلا عوائق جذرية، ولا تتعرض لأي تهديدات حقيقية من دول الجوار، إلا أن هذه الطمأنينة زائفة إلى حد بعيد. فهي تراقب تطورات الاوضاع في مصر والأردن وسورية بقلق فعلي، وتخشى جدياً من أن تتمكن منظمة التحرير الفلسطينية من النجاح في خطتها الدولية للاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال، وتخشى أيضاً من اندلاع مواجهة شعبية مع الفلسطينيين تتطور إلى عصيان مدني شامل. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم توقيت المبادرة التي اتخذتها بعض النخب السياسية والأمنية والأكاديمية الاسرائيلية، حين قدمت مشروعاً للحل الدائم. ومع أن هذا المشروع لم يحظ بالتأييد الرسمي الاسرائيلي، إلا أن في الامكان اعتباره إما محاولة لجس نبض منظمة التحرير الفلسطينية قبيل ذهابها إلى الأمم المتحدة في أيلول المقبل، أو تجسيداً لحالة القلق التي تعيشها النخب الاسرائيلية من أن تصبح اسرائيل دولة معزولة تماماً في النطاق الدولي.

 

الولايات المتحدة الأميركية، وهي المتباري الثالث في السباق الدولي، يبدو أنها باتت تخشى جداً من تدهور مكانة اسرائيل كثروة استراتيجية لها في المنطقة العربية. لذلك بادرت إلى رفع قيمة المساعدة العسكرية السنوية لها بذريعة مساندة مشروع "القبة الحديدية" لتعزيز مكانتها الأمنية، وتطمين الجيش الاسرائيلي وتهدئة مخاوفه. أما الشأن الخطير الذي ربما تُقْدِم عليه الولايات المتحدة لاجهاض خطة منظمة التحرير الفلسطينية فهو التقدم من السلطة الفلسطينية واسرائيل معاً باتفاقية إطار(Frame work agreement)  تتضمن جميع النقاط العالقة في المفاوضات كالقدس والحدود والسيادة والمياه والمستوطنات وتبادل الأراضي واللاجئين، على أن يتم تنفيذ النقاط القابلة للحل فوراً، وتأجيل تنفيذ باقي النقاط إلى مرحلة لاحقة من غير أي جدول زمني مُلزِم. وحتى لو تضمنت اتفاقية الإطار هذه جدولاً زمنياً، فلا شيء يضمن التزام اسرائيل تنفيذه. والدليل أن  سنة 1999 كانت هي السنة المفترضة للانتهاء من قضايا الحل النهائي وإعلان دولة فلسطين الحرة والمستقلة، لكن اسرائيل عرقلت ذلك كله، وها نحن بعد اثني عشر عاماً نتطلع إلى الأمم المتحدة لعلها تكون بوابة الحل المضمون دولياً.

ومحطة أيلول المقبلة إنما هي الخطوة الأولى في مسيرة طويلة من المواجهة الجديدة مع اسرائيل. وهذه المواجهة لا يمكن أن تتمخض عن أي انتصار إذا لم يسهم فيها، هذه المرة، العالم كله، والشعب الفلسطيني بأسره. إنها مواجهة تستخدم فيها جميع عناصر القوة من دون استعمال العنف إلا كخيار مشروع وعند الضرورة.

إذا لم يكن الذهاب إلى الأمم المتحدة محاطا برؤية سياسية شاملة، وإذا لم يكن جزءاً من خطة سياسية مفصَّلة تفصيلا عملياً لخوض المواجهة وتحقيق الانتصار، فلا جدوى من ذلك كله على الاطلاق.