لا شك بان ما يجري من تغيرات على الخارطة السياسية العربية، يشغل بال العالم بأجمعه وشعوبه وخصوصاً الشعوب العربية التي تعتبر نفسها صاحبة الحدث والقضية على اعتبار بأن هذه الأحداث والتغيرات تعنيها مباشرة كونها تحصل على مساحتها الجغرافية وتمس نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فالأحداث التي تأخذ شكل الانتفاضات الشعبية والتي تتراوح ما بين الانتفاضة السلمية البحتة  المطالبة بالإصلاح والتغيير والحرية  وما بين الانتفاضة المسلحة أو شبه المسلحة التي تأخذ بدورها حيزاً  كبيراً  وصل إلى مستوى الحروب الكلاسيكية المفتوحة كما يحدث في الجماهيرية الليبية، وحتى تلك التي يمتزج فيها الفعل الحربي بالفعل السلمي كما هو الحال في الجمهورية اليمنية.

من هنا تأتي أهمية هذا الحدث الجماهيري العربي المتحرك والمتصاعد باستمرار وبشكل يومي ضد أنظمته وحكامه، التي استطاع بعضها الوصول إلى الخواتيم النظرية على الأقل كما حدث في الجمهورية التونسية التي أدت إلى خلع الرئيس زين العابدين بن علي ونظامه وفي جمهورية مصر العربية التي استطاعت جماهيرياً بدورها إسقاط النظام ورموزه والذهاب بعيداً أكثر من ذلك وصولاً إلى تقديم الرئيس المخلوع حسني مبارك وعائلته بما فيها زوجته وولديه علاء وجمال إلى المحاكمة بتهم متعددة. وهي تهم على كل حال لم تعد مجرد تهم وحسب بل كشف عن صدقيتها عبر الوثائق والأوراق الرسمية والإثباتات الدامغة.

إلا أن هذه التحركات طرحت ومنذ البداية سلسلة من الأسئلة النمطية سواء في الشكل أو المضمون تتعلق بطبيعة هذه الأحداث أولا وعن القوى التي تقف وراءها ثانياً وبالتالي عن أصحاب المصلحة الحقيقية في هذه التغيرات الدراماتيكية المتسارعة تَسارُعَ النار في الهشيم.

وبغض النظر عن طبيعة الأجوبة التي قد يختلف حولها الكثيرون من المحللين والمتابعين  لهذه الأحداث وهذا الاختلاف يعود الى طبيعة الرؤيا السياسية لأصحابها والقدرة على تفسيرها. إلا أن الجامع ما بين هذه التفاسير هو ما يمكن الوصول إليه من نتائج، والتي يتفق عليها الجميع بأنها ستكون نتائج مهمة ومؤثرة وستصل إلى درجة أحداث تغييرات كبيرة  في الخارطة الجيو- سياسية وحتى الديمغرافية والجغرافية البحتة،

خصوصاً في ظل ما يجري تداوله عن تقسيمات جديدة وانقسامات جغرافية وبشرية في نهاية المطاف يدعمها سقوط آلاف الضحايا وكثير من الدماء " الجماهيرية"، ليصبح بعدها التعايش بين أفراد الشعب الواحد من الصعوبة  البالغة، خصوصاً في البلدات التي يطغى على طابعها التشكيل العشائري و القبلي كما هو الحال في كل من الجماهيرية الليبية والجمهورية اليمنية ، دون الالتفات حتى إلى طبيعة القوى السياسية التي قد تشكل فيما بعد أو تعيد تشكيل الخارطة الجيو- سياسية

فمن هنا وانطلاقاً من هذه المخاوف التي لها ما يبررها  منطقياً فان الاعتقاد المتنامي والمتصاعد بشكل مستمر يفضي إلى  ان المنطقة بأسرها سائرة نحو تغيرات كبيرة ، وإعادة رسم خرائط غير متعارف عليها حاليا،  والتي كانت هي بدورها نتيجة لأحداث كبيرة حدثت مع بداية القرن التاسع عشر ، والتي كان من ابرز علاماتها تصدُّع وانهيار الإمبراطورية العثمانية الذي كان من نتائجه تقاسُم الدول والأوطان على مقياس الدول المنتصرة والقوية في ذلك الوقت ، وهو ما أدى بالضبط الى اتفاقيات سايكس _ بيكو  الفرنسية _ البريطانية والتي أعادت رسم خارطة المنطقة من جديد طبقاً لمصالحها السياسية والتجارية في ذلك الوقت.

وعلى ضوء ذلك فإننا نعتقد بان ما يجري على الساحة العربية حالياً من تغييرات سيؤدي بالنهاية إلى رسم خارطة جيو_ سياسية جديدة وعلى أسس مختلفة من أهم صفاتها الواقع الاقتصادي الجديد الذي يأتي انعكاساً للأزمة العالمية التي بدأت تطل برأسها في أواخر القرن الماضي ، وبداية القرن  إل 21 الحالي.

الذي  سيخرج  فيها منتصراً وقادراً على فرض رؤيته هو من يستطيع أن يتحكم بالطاقة  خلال المئة عام القادمة. من هنا تأتي أهمية التغيرات في المنطقة العربية كونها خزان الطاقة العالمي والمرشح لبقائها لفترات طويلة قياساً مع باقي البلدان الغنية بالطاقة التي يصل بعض المحللين إلى تحديدها ب 50 عاماً على الأقل تمتد إلى ما بعد نضوب الطاقة في معظم الدول في العالم، وتحديداً تلك الموجودة على خارطة امتلاك الطاقة وعلى رأسها البترول وهذه الحقيقة تعيدنا إلى فهم طبيعة إقدام الإدارة الأمريكية والدول المتحالفة معها بتحريك جيوشها لاحتلال العراق ، وهو ما اعتبر في وقته السابقة الأولى في تاريخ العالم العربي الحديث التي وصلت إلى مرحلة إسقاط نظام صدام حسين بالقوة ، واحتلال العاصمة العراقية بغداد تحت ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل وأسلحة ذرية وغيرها ، إلى جانب اتهامه باختراق قواعد حقوق الإنسان التي أثبتت الأحداث عدم جديتها وكذبها ، وانكشاف ان العراق الذي يمتلك اكبر مخزون بترولي في العالم وصل إلى درجةٍ حددته بعض الدوائر الإستراتيجية العالمية إلى ما يقارب 135 مليار برميل غير مستخرج وبالمناسبة هذا الرقم قال عنه معهد الدراسات الإستراتيجية البريطاني بأنه أقل بعشر مرات من الرقم الحقيقي للمخزون العراقي من النفط ، وهذه الأرقام تعني بالتالي أن العراق سوف يكون المصدر الوحيد في العالم تقريباً القادر على إنتاج النفط، وتصديره لفترة تفوق الخمسين  عاماً عن بقية دول العالم المصِّدرة للنفط، بما فيها المملكة العربية السعودية التي تُعتبر حالياً من أكبر المنتجين والمصدرين للنفط إلى الأسواق العالمية وخصوصاً الأمريكية والأوروبية ، ولذلك اعتبر هذا الاحتلال بمثابة زلزال أصاب المنطقة العربية ستطال ارتداداته معظم دولها إن لم يكن كلها. وما نراه اليوم  ما هو إلا المقدمة لهذه التغييرات الناجمة عن هذا الزلزال الذي يشبه زلزال احتلال اسرائيل لفلسطين الذي أدى بدوره إلى تغييرات كبيرة على صعيد الخارطة الجيو- سياسية في المنطقة العربية في ذلك الوقت ، والذي استمرت مفاعيله إلى أكثر من نصف قرن تقريباً وهو ما أدى إلى بروز نظم مطلوب الآن تغييرها  على أسس جديدة وهذا ما يحدث حالياً في العالم العربي.