خاص/ مجلة القدس، لم تنفع حزمة الاجراءاتالانقاذية التي اتخذتها أوروبا والولايات المتحدة الأوروبية في سنة 2011 في انقاذ اليونان،وتجنب الاقتصاد الأوروبي كارثة جدية. وها هي أزمة اليونان تعود لتندلع مجدداً في سنة2012 بعدما فاز تحالف الأحزاب الرافض للاجراءات الأوروبية، في الانتخابات النيابيةالتي جرت في 6/5/2012. لكن هذا التحالف فشل في تأليف حكومة جديدة، الأمر الذي أدى الىاتخاذ قرار بإجراء انتخابات بديلة في 17/6/2012. ولا ريب في أن تجدد الأزمة الاقتصاديةالأوروبية من البوابة اليونانية وضعت دول اليورو (17 دولة) على مفرق طريق: إما أن تجدحلاً متيناً يحمي اقتصاداتها، أو بنفرط عقدها، وتتفكك العملة الأوروبية الموحدة، ولاسيما أن إيطاليا واسبانيا والبرتغال مهددة بامتداد الأزمة إليها، الأمر الذي جعل الاقتصادالأوروبي يشبه مبنى يحترق، وليس فيه نوافذ للقفز منه.

عودة الكينـزية

الأزمات الاقتصاديةوالمالية ظاهرة دورية مألوفة في النظام الرأسمالي. غير أن للرأسمالية القدرة على تجديدنفسها في مواجهة أي أزمة بعد دفع أثمان باهظة. هذا ما حصل في سنة 1929 على سبيل المثال؛فبعد أزمة الكساد الكبير (1929- 1933) ظهرت نظرية جون ما ينارد كينز التي صاغها فيكتابة المشهور "النظرية الامة في النقود" (1936) والتي تبرهن أن النظام الرأسماليمعرَّض لأزمات مالية او اقتصادية بصورة دورية، ولهذا يجب منح الدولة شأناً مهماً فيالعملية الاقتصادية، الأمر الذي يتيح لها التحكم بالعملية الاقتصادية وبالاستثمار منخلال توجيه معدلات الفائدة، والاستثمارات استطراداً، نحو الميادين الاقتصادية الأكثرفائدة للانتاج والتشغيل.

عاشت نظرية كينزطويلاً، لكنها، بعد الازمة الاقتصادية في سبعينيات القرن العشرين، وإلغاء معاهدة برايتونوودز في 15 آب سنة 1971، باتت تتعرض لنقد صارم، وعادت "الليبرالية" الجديدةلتسيطر على الفكر الاقتصادي، وتجهد لتقليص دور الدولة في العملية الاقتصادية.

لماذا تقع الأزماتالاقتصادية والمالية كالأزمة التي عصفت بالولايات المتحدة  الأميركية في آب 2007، والتي تجتاح اليوم دول منطقةاليورو؟ يمكن شرح الأمر ببساطة كالتالي: تبدأ العملية الاسثمارية في العادة لدى مجموعةمن الرأسماليين بمبلغ محدد من المال، فيدخلون السوق ويشترون قوة العمل ووسائل الانتاجونظماً ادارية وانتاجية (التكنولوجيا)، ثم يصنعون السلعة أو الخدمة المطلوبة التي يبيعونهابالتكلفة الأصلية مع ربح محدد. لكن جزءاً من هذا الربح يُعاد اسثماره مجدداً... وهكذاإلى لا نهاية. لكن، ماذا لو طرأ أي سبب يجعل الناس يقررون أن يستهلكوا أقل مما ينتجهالاقتصاد؟ هنا، بالتحديد، تبدأ الأزمة الاقتصادية، فيهبط الانتاج وينكمش التشغيل، الأمرالذي يؤدي الى تراجع القدرة الشرائية ومعها يتراجع الاستهلاك وتنخفض الأرباح ما يؤديالى خفض معدلات الادخار... وهكذا.

المخاطرة والريبة

في الرأسماليةثمة مصطلح "المخاطرة" (Risk). والمخاطرة عنصر تحفيزي للاستثمار،إلا أنها تفترض وجود بيانات إحصائية صحيحة تتيح للمستثمر أن يخاطر في التوقعات. وهناكمصطلح "الريبة" أو "عدم اليقين" (uncertainly)، وهي تعني الحالة التي لا يملك فيهاالمستثمر معطيات احصائية دقيقة. والأزمة المالية العالمية المحتدمة اليوم سببها أنالمستثمرين قاموا بمخاطرات استثمارية كثيرة، لكن في اسواق مريبة. وما شجع على هذه المخاطراتهو وصول قيمة التداولات في السلع والخدمات في العالم في سنة 2007 الى نحو خمسين تريليوندولار، أو خمسين ألف مليار دولار، وهو رقم فلكي بجيمع المعايير. وكان الاقتصاد الاميركيقد وصل في مراحله الأخيرة قبيل الأزمة الى مايشبه البرج الذي لا ينفك يرتفع سنة بعدسنة، مع أن أساساته لا تستطيع تحمل المزيد من الارتفاع، وكان لا بد ان يظهر التشققفي هيكل الاقتصاد. وهذا ما حصل تماماً حين انفجرت أزمة الرهون العقارية في آب 2007،وكان من نتائجها إفلاس عدد كبير من المصارف، ودخول البلاد في ركود كبير.

الازمة تنتقل الىأوروبا

بشرت الولاياتالمتحدة الاميركية العالم بأنها بدأت تخرج من الأزمة في صيف 2010، الا ان ما يجري فيأوروبا ربما يعيد شبح الأزمة الى أميركا مجدداً. ومهما يكن الأمر، فإن أوروبا التيلديها عملة واحدة، لا تمتلك اقتصاداً موحداً على غرار أميركا. وهذه الأزمة إما ان تؤديالى تفكك منطقة اليورو، او الى المزيد من الاندماج، وافقاد البلدان الضعيفة كاليونانجوانب من سيادتها.

بدأت الازمة فياليونان سنة 2009 حين وصلت الديون الى 170% من الناتج الكلي. وهذا يعني ان اليونانصارت غير قادرة على سداد الديون والفوائد المترتبة عليها.وهذا يعني أن البلد بات فيحالة افلاس. فالنمو الاقتصادي توقف، والدين العام ما برح يرتفع حتى وصل الى 350 ملياردولار، وراحت الأجور تتزايد لمواكبة التضخم (أي ارتفاع الاسعار)، بينما بدأ الانتاجيتراجع جراء عدم الإقدام على الاستثمار. وحاولت اليونان اللجوء الى بيع مرافقها العامةوخصخصتها، لكنها لم تتمكن من بيع هذه المرافق بأسعار عادلة بعدما أصبحت على مشارف الافلاس.وهذه الاوضاع جعلت المستثمرين يهربون خوفاً من التعرض للافلاس، وجعلت المضاربين يهجمونللحصول على مايريدون بأسعار هزيلة. عند هذا الحد انطلقت صافرات الانذار في منطقة اليوروكلها، وأضاءت الأزرار الحمر في بورصات أوروبا، وتداعت دول المجموعة الاوروبية لانقاذاليونان، وجرى اطلاق حملة في هذا الشأن في أيار/مايو 2010، وبلغت قيمة المبالغ المرصدة109 مليارات يورو. ومن جانبها اتخذت الحكومة اليونانية سلسلة من الاجراءات، وصاغت خطةتقشف صارمة كان من بنودها ما يلي: تجميد التوظيف في القطاع العام، واجراء اقتطاعاتمن الرواتب، ورفع الضرائب واصدار سندات خزينة لعشر سنوات، وتمديد سن التقاعد.

لم تنفع هذه الاجراءاتالبتة، فقد استمر التضخم وعجز الموازنة في الارتفاع، وشرع المتضررون من هذه الخطة،وهم من الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا، في موجة من الاحتجاجات الصاخبة في الشوارع.وبعد عشرة أشهر تبين أن هذه الاجراءات كلها تشبه الكلام على تعليم الدول التي تواجهمشكلات مالية قاسية كيف تمون وهي معافاة.

الحل الممكن حلموقت

بسبب الأزمة المستعصيةالتي هددت بإعلان اليونان دولة مفلسة(أي دولة غير قادرة على سداد ديونها)، استنكفتالمصارف العالمية عن إقراض المؤسسات الاقتصادية اليونانية، وازدادت الأصول المسمومةلدى هذه المصارف. والأصول المسمومة (Toxic assets) مصطلح يعني المديونيات المتعثرة،أي التي يصعب تحصيلها. وكان الحل الذي توصلت اليه القمة الأوروبية المنعقدة في26/10/2011 يتضمن التالي.

• رسملة القطاعالمصرفي الأوروبي، أي مساعدة المصارف في الاستمرار في الإقراض.

•تقديم ضماناتلها في شأن الأصول المسمومة.

• مساعدة اليونانبحسم 50% من الديون المتوجبة للمصارف.

• منح اليونانقروضاً إضافية بقيمة 100 مليار يورو.

• شراء أو (تأميم) المصارف المتعثرة، ثم إعادة بيعها لاحقاً بعد تنظيفها.

رفضت المصارف الأوروبيةخطة انقاذ اليورو وإنقاذ اليونان ( أي التخلي عن 50% من ديونها). وعلى الفور هددت المستشارةالألمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي تلك المصارف بأن عدمالتجاوب مع هذه الخطة سيعني ترك اليونان للافلاس، وهو ما يعني ايضاً ترك المصارف لمواجهةالانهيار، لأن دول منطقة اليورو لن تقوم، حينذاك، بإنقاذها. وكان من شأن هذا التهديدأن أرغمت المصارف على الاذعان.  غير أن هذهالخطة لم تكن حلاً نهائياً لمشكلة اليونان واليورو، انما هي حل لا يمكن استمرار  مفاعيله أكثر من شهور عدة على أبعد تقدير، وعلىالعالم الرأسمالي أن يفتش عن حلول بعيدة المدى كي يجعل الأزمات الدورية متباعدة، وفيالامكان التحكم بها وبنتائجها.

هل تكون الصينالمنقذ؟

إن أحد الحلولالمقترحة لمعالجة عجز الدول المدينة، بما في ذلك عجز الميزان التجاري الأميركي، هوان تعمد الدول الدائنة الى ان تشتري بفوائضها، سلعاً أميركية وأوروبية لتحفيز الطلبالداخلي، بحيث تنخفض المديونية الى نحو 4% من قيمة الناتج المحلي للدول الدائنة ولدىالصين اليوم نحو 900 مليار دولار في صورة سندات مسحوبة على الخزانة الأميركية وحدها،من بين ثلاثة تريليونات دولار عبارة عن احتياطي العملات الصعبة. في هذا السياق دعتأوروبا الصين الى المساهمة في "الصندون الاوروبي للاستقرار المالي ".لكنالصين التي لم تتردد في شراء سندات أوروبية وأميركية، تتردد في المساهمة في هذا الصندوقلأن من شأن ذلك ان يؤدي الى تدويل عملتها (اليوان أو الرينمبي)، أي جعل عملتها عملةدولية متداولة في الاسواق التجارية، وفي البورصات ومؤسسات التسويات المالية.

وترغب بعض دولأوروبا، كفرنسا، في أن تضاف العملة الصينية الى سلة العملات التي تستخدم في صندوق النقدالدولي من بين مجموعة العملات في "وحدة حقوق السحب الخاصة"، وهي نسبة منالدولار والين والجنيه الاسترليني واليورو، علماً أن العملة الصينية باتت عملة تجاريةمتداولة جداً في أسواق دول الخليج العربي، وفي دول الشرق الأقصى.

قصارى القول إنالعالم الرأسمالي يتغير بسرعة. وقد كشفت الأزمة المالية الاميركية، ثم الأزمة الأوروبيةالحالية، أن، هناك صراعاً جوهرياً بين إرادة الثروة وإرادة المعرفة، على الرغم من التشابكبينهما. فإرادة المعرفة تعني إطلاق القدرات الهائلة للانسان من طريق العلم. أما إرادةالثروة فتعني أن الرأسمالية بقدر ما تستخدم العلم لإطلاق الثورات في انتاج السلع، تطلقنتائج تدميرية للمجتمعات وللبيئة معاً. فمتى تتمكن الانسانية المفكرة من ابتداع حلتاريخي للانسانية المتألمة؟