رائع وغني ومتوهج ذلك الماضي الذهبي الذي تجذر في ذاكرتنا ووعينا ووجداننا وعقلنا بكل محمولاته. كيف نحياه ولا نموت به وفيه؟ كيف يحيا المعنى؟ لا كيف يعيش الجسد على حساب المعنى، على حساب معناه؟ ومن قال إن هذا الجسد البائس الممتهن، هذا البدن، هذه الأرض، هذا الوطن وذاك وذلك، هذه الشعوب المجلودة المرجومة.. من قال إنها تعيش؟

لا نريد أن نخرج من الماضي ولا أن نخرج الماضي منا، نريد أن نسبح في سائل زماني متصل، نريد، نحن والماضي، مع الماضي، أن ندخل في الحاضر. إن الجماعات الاثنية والدينية والعرقية، لم يعد بإمكانها بعدما انكسرت قوقعة الهوية، من دون أن يسقط مفهومها، أن تتعامل فيما بينها على أساس محددات ثابتة لا تحول ولا تزول.

حتى اليهود لم يعودوا يهودا، أن الصهيونية تعيد إنتاج اليهودية، والصهيونية المركبة المعقدة تداخلت مع ثقافات وحضارات وأنماط حياة أخرى، كانت معادية لليهود واليهودية، وتكون ما زالت كارهة لها، ولكن المسألة لن تغير في المسارات شيئاً، فقد انعطف الجميع على مفصل حضاري معقد، تعارفوا وتثاقفوا وتكاشفوا واكتشفوا وكاشفوا، ولعلهم تآمروا على بعضهم بعضاً أو مع بعضم بعضاً علينا، فما هو الجديد والمفاجئ؟

هذه الصهيونية هي الاختزال الموضوعي لليهود، وهو إن يكن قاسياً علينا قطعاً وعليهم ربما، ومن منظور آخر وأعمق، ولكنه موضوعي وواقعي وفاعل، وإذا ما كانت هناك استثناءات غير مذكورة، فإنها بين مآلين، فإما أن تتحول بتأثير عوامل مختلفة، منها جهدنا ووعينا، إلى ظاهرة تعدل المسار العام في اتجاه غير إلغائي نابذ، وأما أن تضطر في منعطفات معينة وحادة، وحيال استمرار تراجعنا وفقدان أهليتنا المكتسبة، أن تختار موقعاً آخر يصالحها مع مناشئها الأولى وأهلها الأولين.. وهذا المآل هو الأقرب إلى طبيعة الأمور فيما يخصنا والأخبار تتوارد عن أننا نخسر مناصرينا في المجتمعات الغربية، بسبب الإهمال والبخل والمماطلة والكذب والكسل والنفاق والبذخ على التفاهمات.

أعود للماضي الذي أرانا نستدعيه، بين موسم وآخر، برجاله وأبداله وأعلامه لنوظفهم في إعادة إنتاج، أو ترميم، أو تأهيل عصبياتنا، التي يمكن أن نخون ونسكت لو كانت على حالها المعهودة ضد الآخر في المذهب الآخر أو الدين الآخر، ولكننا نكفر إذا رضينا ونحن نراها عاملة ناصبة داخل الجماعة الواحدة والمذهب الواحد والحزب الواحد والضيعة الواحدة والمدرسة الواحدة والفصل الواحد والحي الواحد والأسرة الواحدة.

وإذا ما كان الأقرب لا يأمن الأقرب، فأنى للقريب أن يأمن قريبه أو للجار أن يأمن جاره، أو للصديق أو للشريك أو للحليف أو للرفيق، أن يأمن الشريك والصديق والحليف والرفيق، ولا يبقى في أمان على قاعدة هذا الخراب القومي والوطني العمومي، إلا البعيد، إلا العدو، إلى الصهاينة وكيانهم الغاصب، والذي يتقدم على تقدمنا لو تقدمنا، أما على تأخرنا فإن المسافة تكون خرافية.

مذهل، مذهل، هذا الفارق الذي يتعاظم بيننا وبينهم، ولا يغطيه الفارق بين جورهم وكلامنا عن العدالة، بين ظلمهم ومظلوميتنا، بين باطلهم وحقنا، وفي حين يدور كلامهم على الصهيونية الجديدة وما بعد الصهيونية، ويشعر الجيل المؤسس منهم بأن التطورات والاستحقاقات الحضارية قد تجاوزت عقله، يتراجع وتتراجع معه البنى الاجتماعية والثقافية والإدارية والسياسية والعسكرية والعلمية والفنية التي أسسها وأسس عليها، من الكيبوتز والموشاف إلى الهستدروت والأحزاب إلخ... ولها أزماتها وارتكاساتها وأخطاؤها الفادحة وأخطارها ومخاطرها قطعاً...

ولكننا لا نعرف أين مثالنا؟ هل هو في المشهد العياني أم في الذاكرة التي تطرد العين والعيان؟ وهناك منا من يريد إعادة إنتاج التجارب المكشوفة في نظام معرفتها وأطروحتها وأدوات تحليلها والحتميات المشبوهة التي عطلت التاريخ والاجتماع والفن والأدب والذوق والإنتاج والحياة وبددت الثروة ولوثت البيئة.

والمفارقة هي أن إعادة الإنتاج هذه تتم على نفس الوصفات البائدة وعلى نقائضها الإيديولوجية معاً.. وإذا ما غابت عن وعي الشمولية الإسلامية مثلاً موضوعة المجتمع اللاطبقي، فإنه لم يغب عن وعيها ولن يغيب ذلك النزوع الجارف والمدمر نحو المركزية الخانقة، إلغاء الأفراد ودكهم في فرد رئيس واحد، واختزال المتعدد السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو الإثني أو المذهبي أو الثقافي في الواحد أو في واحد. كيف يكون الماضي منارة لا مغارة، شرفة لا كهفاً، مشروعاً مفتوحاً لم يكتمل ولن يكتمل بل ينمو باستمرار، لا مكاناً للاسترخاء والاستقالة والقيلولة والكسل، عمقاً لا سطحاً؟؟ وكيف يكون الزمان والتاريخ نهراً لا أباريق مهشمة؟ كيف يحيا بنا الماضي ونحيا به، نحييه فيحيينا ويحيينا فنحييه؟ عندما يتجه الصوت إلى داخلنا حتى لا تزهق الأصوات الملعلعة أرواحنا وتذرو رياح الوقت لحظتنا.