هل يمكن للانقسام الفلسطيني الذي بدأ صراحة في الرابععشر من حزيران عام 2007 أن يكتسب شرعية ما؟ أي أن يتم الاعتراف والتسليم بنتائج هذاالانقسام، فيكون هناك كيان ما معترف به في قطاع غزة، وكيان ما في الضفة، وأن يتعاملالعالم على مستوى شرعياته الإقليمية والدولية مع هذه النتائج؟

أطرح هذا السؤال:

لأنه بعد اتفاق الدوحة الذي كان في سياق متصاعد لتحولسياسي ناضج جدا، وعميق جدا على مستوى العقل السياسي الفلسطيني، ينطلق من قراءة صحيحةللواقع كما هو دون اي نوع من الرهان على الأوهام، أقول أنه بعد اتفاق الدوحة رأيناالأصوات المعارضة لهذا الاتفاق، تعود وتخرج من جرابها الأدوات القديمة البائسة التيحاولت من خلالها أن تبرر خطيئة وكارثة الانقسام عندما حدث في أيامه الأولى !!! مع أنالظروف تغيرت، والمعايير تبدلت منذ ذلك الوقت، ولم يعد بالإمكان العودة للوراء.

وأعتقد أن الفكرة الجوهرية والرهان الأساسي الذي يتشبثبه أصحاب الانقسام، أعداء المصالحة عموما، وأعداء اتفاق القاهرة، وأعداء اتفاق الدوحة،أنهم يرون أنه من الممكن مع مرور الوقت، وتصاعد المعاناة لأكثر من مليون ونصف المليونمن سكان قطاع غزة، أن يرضخ العالم ولو من باب الشفقة، أو المعايير الانسانية، ويعترفسياسيا وبشكل رسمي بالواقع القائم للانقسام، ويشرعنه، ثم يقبله بعد ذلك كأمر واقع لامفر منه !!! فهل هذا ممكن أم أنه مجرد رهان وهمي، وأن السياسة الدولية أعقد من ذلكبكثير، وأن أي تأخير في انجاز المصالحة، وأي عراقيل توضع في طريق اتفاق الدوحة، لنينتج عنها سوى المزيد من المعاناة، وتضخيم الخسائر، وفداحة الثمن الذي ندفعه في قطاعغزة وفي فلسطين في نهاية المطاف؟ وأريد أن أضرب مثلا ما زال يتذكره الناس، كيف تصرفالمتشبثون بالانقسام بعد فرض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة ووصول بعض المتضامنينإلى بحر غزة عبر زوارق صغيرة، كيف أن جماعة الانقسام أعلنوا دون أي قدر من العمق السياسيأن الخط البحري إلى قطاع غزة قد تم تدشينه بشكل رسمي، وأنهم أصبحوا في انتظار تدشينالخط الجوي !!! ثم اتضح بعد ذلك بقليل أن كل ذلك لم يكن سوى تساوق متسرع مع الأوهاموليس له علاقة مع حقائق السياسة الدولية.

بصفة عامة: فإن النسق الذي تقوم على أساسه العلاقاتوالتحالفات والسياسات الدولية ليس بهذه السذاجة التي يتخيلها البعض، وأن السياسات الإقليميةوالدولية لا تدار بهذه السطحية !!! بل أريد أن أذكر هنا أن العالم كثيرا ما يلجأ فيبعض المناطق إلى التوافق على أن تكون جهة ما أو قطر ما أو ساحة ما صغيرة أو كبيرة مجردماصة صواعق، حيث يترك ذلك النموذج لكي يتآكل تدريجيا، وتشب فيه النيران، ما دام ذاكالتآكل أو الاحتراق الداخلي لا يؤثر سلبيا وبالقدر الكافي على نمط العلاقات والتحالفاتالدولية القائمة !!! وأريد أن أذكر هنا بنموذج طالبان في أفغانستان ونموذج تبادل الأدوارالكارثي في الصومال، أو استمرار الاشتعال لعقود طويلة في السودان قبل وبعد انفصال الجنوب،أو النموذج الأكثر وضوحا لنا وهو نموذج لبنان الذي ترك قرابة ثلاثين سنة وحيدا مع حروبهالأهلية الداخلية دون فائدة تذكر.

بعض الناس يخلطون بين التعامل الأمني والاعتراف السياسيالشرعي، فليس كل لقاء مع جهة أمنية عربية أو اسلامية أو دولية هو توطئة للاعتراف الشرعي!!! بل إن بعض اللقاءات العابرة لا يجب أن تعلق عليها آمال كبيرة، واكبر دليل على ذلكيتمثل في موجة التصريحات المتلاحقة حول حل مشكلة الكهرباء مع الأشقاء المصريين في قطاعغزة، ثم المفاجأة الصادمة بأن أي من تلك التصريحات الوهمية المبالغ فيها لم تحقق شيئا،بل الامور تزداد سوءا.

أهمية اتفاق القاهرة، ومن بعده اتفاق الدوحة، أن العقلالسياسي الفلسطيني الذي وقع الاتفاقين، وصل إلى درجة عالية من النضج السياسي، حين وجدأن الفرصة الوحيدة امام حركة حماس لاكتساب الشرعية الإقليمية والدولية هي أن تكون أولاجزءا عضويا منسجما من الشرعية الفلسطينية، لكي تحملها الشرعية الفلسطينية إلى آفاقالشرعية الدولية !!! وأكثر من فهم هذه المعادلة بدقة وعمق هم الإسرائيليون الذين شنواحملة هوجاء ومسعورة ضد المصالحة، وصلت إلى حد التهديد العلني، لأن نتنياهو وائتلافهالمتطرف أدركوا أن وصول حماس لتكون جزءا عضويا مهما ومنسجما من الشرعية الفلسطينيةسيوصلها حتما وبسرعة البرق إلى الشرعية الإقليمية والدولية، ولذلك رأينا كل هذا الاستنفارالاسرائيلي الذي وصل إلى حد الهستيريا ضد اتفاق القاهرة واتفاق الدوحة، وهذا أمر طبيعيومفهوم، لأنه يخدم المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية في بقاء الانقسام الذي خططوا لهوساهموا في صناعته !!! ولكن الصدمة الكبرى أن هذا الانقلاب على المصالحة، والرفض للمصالحة،ومحاولات تخريب المصالحة جاء أيضا من بعض الأطراف الفلسطينية وخصوصا من داخل حركة حماس،فهل لدى هذه الأطراف حجم من المصالح يبرر لها هذا العداء الشديد للمصالحة؟

انا شخصيا لا أعتقد ذلك، وأن المصالحة تخدم اكثر هؤلاءالأطراف لو كانوا على درجة من النضج السياسي، ولو أنهم استطاعوا أن يخترقوا فقاعاتالأوهام المحبوسين داخلها، وأن يمدوا بصرهم إلى الأمام لكي يستشرفوا المستقبل، مثلمافعل الأخ «أبو الوليد» خالد مشعل حين وقع بشجاعة ونضج سياسي على اتفاق القاهرة ومنبعده على اتفاق الدوحة.

أعتقد أن هؤلاء الرافضين للمصالحة يعيشون مآزقهم الفردية،وحساباتهم الشخصية، وهذه غطت على أبصارهم كي لا يروا الحقائق كما هي، ولذلك نسمع الآنهذه العودة غير الحميدة إلى اللغة القديمة، والتبريرات غير المقنعة، والتفسيرات المنفصلةعن الواقع، كما لو أن الاحتفاظ بالانقسام أطول فترة ممكنة سيؤدي في نهاية المطاف للحصولعلى الشرعية الموهومة.