ست وسبعون سنة، من عذابات التشرد، والتشتت، ومخيمات اللجوء، والملاحقات التعسفية، من كل لون، ونوع، وهوية. ست وسبعون سنة من النكبة، صنيعة الغرب الاستعماري الذي ضرب بها فلسطين، أرضًا، وشعبًا، وحياة، وأحالها جريحة، لا تزال تنزف حتى اللحظة، بل إن هذه النكبة اليوم، مع هذا العدوان الحربي الإسرائيلي العنيف، على قطاع غزة، والضفة المحتلة، تسعى بالتطهير العرقي، لافتراس القضية الفلسطينية برمتها، حتى لا يتبقى منها سوى المخيم، وأن كان على ركام عميم، كما نرى الآن في قطاع غزة المكلوم!

ست وسبعون سنة، ولكل فلسطيني حكايته عن هذه المظلمة الكبرى، أي خيم تقلب فيها بوجع القهر، وقلق المصير، أي شتات عانى فيه الأمرين، بعد أن اقتلعه المحتلون الذين جاؤوا من خلف الأطلسي، من حقله، ومن بيته، وبسطو مسلح استولوا على البيت وما فيه، وهيمنوا على الأرض باستعمارية عنيفة، وبتزوير أعنف، كانوا قد زعموا أن البلاد أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، وأعطوها ما أرادت لهم روايتهم الصهيونية المفبركة، اسمًا، ما زال لا يعرف، وغير قادر على محو اسمها الذي كان لها منذ فجر التاريخ، ولهذا كتب شاعرنا "كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين" وقد أبلغها الشاعر، وهي السيدة "سيدتي أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة".  

ست وسبعون سنة والصهيونية تحاول بعبث عنيف محوا لفلسطين من الخارطة، والسياسة والضمير، وشطبًا لكل خطاب، وكل فعل ينادي بحقوقها شعبها العادلة، وتطلعاته المشروعة، لكن فلسطين بنضالات أبنائها في إطار حركتهم الوطنية التحررية، تجاوزت جائحة المحو وما زال أبناؤها في دروب النضال الوطني يدقون أبواب الحرية بكل يد، وقد تضرجت بدماء الشهداء والضحايا.

وست وسبعون سنة من دم الشهداء الضحايا، وسيله يتدفق اليوم على نحو مفجع بفعل العدوان الحربي الإسرائيلي الذي فلت من عقاله، فما عاد الضمير الإنساني يحتمل ذلك، ليصدح بهتاف الحرية لفلسطين في شوارع العالم أجمع،  وكأنه يرمي بسنوات النكبة كلها الآن، مرافعة أخلاقية، في باحة محكمة العدل، وباحة محكمة الجنايات الدوليتين.

وست وسبعون سنة لم ينم الفلسطيني على حرير أي وعود، تقلب بأرق ثقيل، ذات اليمين، وذات اليسار، في خيام اللجوء، فما وجد سواه ليشعل مع مطلع العام خمسة وستين من القرن الماضي شعلة الثورة لتنير دروب النضال نحو الحرية والعودة والاستقلال. ومن يومها عادت فلسطين إلى خارطة الوجود السياسي والإنساني، بهويتها الوطنية، وبكامل روايتها الواقعية، والتاريخية، العصية على المحو، والشطب، والتزوير.

قال المحتلون: "سيموت الكبار، وسينسى الصغار" فلا تعود فلسطين حاضرة ولا على أي مستوى. غادر الكبار الحياة، لكنهم ما رحلوا من ذاكرة أبنائهم وما أثثوا فيها من بيوت عامرة بالثقافة الوطنية، وحجر الفتى في الانتفاضة الكبرى خير دليل على ذلك، وما زال الحجر في قبضته، وفي مواجهة الاحتلال ما زال يعلي هتافه، هتاف الحرية والاستقلال، حتى هزيمة النكبة بكل ما صنعت من ظلم وظلام، وهذا ما سيكون لا محالة.