تسير في مخيم الأمعري جنوب مدينة رام الله، حيث بساطة العيش والحلم، أينما ذهبت ببصرك وتأملت الأزقة المتشعبة، تستقبلك الصورة ذاتها، جدران مكتظة بصور شهداء المخيم وأسراه، كتابات ورسومات تحاكي الألم والأمل بالعودة.
وتماما كما هي باقي منازل المخيم، يعج منزل الأسيرين الشقيقين محمد ورمزي براش المحكومين بالسجن المؤبد بصورهما إلى جانب العلم الفلسطيني، الصور تحاكي مراحل طفولتهما وشبابهما، وفي الناحية المقابلة على طاولة خشبية صورة قاتمة عنوانها سجن عسقلان حيث يقبعان، وأخرى لشقيقهما صابر الذي استشهد عام 2000 برصاص قوات الاحتلال.
بالشجاعة والعزيمة نفسها، تكابد والدتهم سميرة براش "أم شادي" (58 سنة) عناء الحياة وضنكها، لكنها تجد متسعا لابتسامة لا تخلو من الشحوب والحزن، وقد يثير استغرابك عندما تسمعها تقول إن أمنيتها الوحيدة أن تصبح عجوزا فوق سن الستين، بمجرد أنها سمعت ذات مرة أن إدارة السجن تسمح لكبار السن بالجلوس مع أبنائهم وتقبيلهم.
الأسير محمد براش (36 عاما)، اعتقل سنة 2002، بعد محاصرة منزله من قبل الاحتلال، وما زالت الأحداث تتقلب في ذاكرة والدته، التي تروي أن ابنها كان جالسا على عربته بعدما بترت ساقه، وفقد بصره جزئيا في البداية، غير أنه الآن لا يرى إطلاقا؛ نتيجة الإهمال الطبي، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال، أثناء تواجده برفقة مجموعة من الشبان في رام الله عام 2001.
تعثرت الأم بحروفها، شرد ذهنها بعيدا، هو الحنين يشدها عنوة إلى أبنائها، وسرعان ما عادت لمواصلة حديثها: "يتهمه الاحتلال بالتسبب بمقتل جنود إسرائيليين، حكم عليه بالسجن المؤبد و30 عاما، بعدما اعتقله جنود الاحتلال بعد جره بوحشية، وبدأ مع الأيام يفقد بصره كليا، قبل أن يخبرني أحد بذلك، لاحظت الأمر من تلقاء نفسي خلال إحدى زياراتي، رأيته ينظر بعيدا عني".
تساءلت أم شادي: "كيف لأم أن تصبر عندما ترى ابنها لا يمشي على قدميه ولا يرى، ويعاني من ضعف في السمع أيضا وحالته الصحية في ترد مستمر؟ مضيفة: لو أنهم يسمحوا لي أن ألمسه، أتحسس جرحه أو أقبله، ابني يرفض العلاج في عيادة سجن الرملة، مبررا ذلك بأن علاجهم مقتصر على "الأكامول"، وما يطمئنني أن شقيقه رمزي برفقته في السجن نفسه يرعاه ويعطف عليه".
تلمست يداها الحانيتان صور من غيبهم الاحتلال قسرا، تنهدت دون بكاء؛ لأنه كما قالت دليل الهزيمة، لذلك تحرص على كبت دموعها عند رؤية ابنيها، وما يجعلها كذلك هم السجانون المنتشرون في كل مكان؛ لأن دموعنا حتما ستشعرهم بضعفنا وهزيمتنا، وهذا ما لا أريده، وبضحكة مكسورة أردفت: "الأم الفلسطينية صابرة".
محمد يسأل والدته في كل زيارة عن أخبار العائلة والجيران والأقرباء، يسألها متى طهت أكلة "ورق الدوالي" التي يشتهيها؟ بينما تراوغ هي في إجابتها خوفا من أن تترك بداخله حسرة، غير أنها تعود محملة بأوجاع كبيرة لا توجع أحدا سواها.
ضريبة حرية الوطن ثمنها غال، تدفعها من دمك أو حريتك، ورمزي براش المحكوم في السجن مدى الحياة دفع وما زال حريته في سبيل أزلية فلسطينيته، باغته جنود الاحتلال ليلة زفافه، وحاصروا إحدى قاعات الأفراح عام 2003، اعتقلوه ببدلة زفافه، هذا ملخص صغير لمعنى أن تكون فلسطينيا.