بقلم: يامن نوباني

في اليوم التالي لتحرر محمد زايد بعد 20 عامًا، من بلدة بيت لقيا –لاجئ من بيت نوبا- غرب رام الله، يخرج نجله عبد الله من غرفته، ويناديه: يابا..

يشرد زايد في الكلمة، ويطالب عبد الله بأن يعود لغرفته ويفتح الباب مجددًا، وتخرج يابا مرة أخرى. وكأنه يفتح له باب السجن لتتحرر كلمة أجّلتها زنازين السجون وعتمتها 20 عامًا.

اعتُقل محمد زايد (46 عاماً)، في عام 2004، في الوقت الذي كان فيه "عريسًا"، وزوجته حاملاً، لينتظر 20 عامًا ونصف، ليلتقي بزوجته أم عبد الله ونجله عبد الله، خارج أصفاد السجن.

يقول زايد: كانت "يابا" أجمل كلمة أسمعها في حياتي.

ويتابع: أمضيت في السجن 7450 يومًا، 20 عامًا و5 أشهر، حملت زوجتي قبل اعتقالي بشهرٍ واحد، وكنت أحب خلفة البنات، وأتمنى أن يكون لي بنت، لكن حين زارني المحامي بعد نهاية التحقيق معي، أخبرني بأن زوجتي حامل بولد، فسجدت شكرًا لله، لأنني كنت على علم بأن حكمي سيكون "مؤبداً"، وكانت مشيئة الله أن يكون خلفي "ولد" ليتحمل مشاق الحياة مع أمه ويرعاها في غيابي.

وقال: أيام السجن وسنواته كانت طويلة جداً، فلم يكن هناك أفق، لكن الأمل كان حاضراً على الدوام، كانت تمر أشهر طويلة وأحيانًا سنة كاملة دون زيارات.

وأضاف زايد: من خلال علاقتي بالأشبال –الأسرى صغار السن دون 18 عامًا- كنت أتهيأ للعلاقة بولدي عبد الله، واختلطت بهم لمعرفة اهتماماتهم وكيف يفكرون، وها قد مر يومان على تحرري، ولا أشعر أن ما مر هو أكثر من 20 عامًا، أحاول فهمهم لأفهم عبد الله لحظة تحرري، أتفاعل معهم كي أعرف كيف أتفاعل مع ولدي.

وأضاف: في أول زيارة أحضروا لي فيها "عبد الله"، في 22-4-2005 وكان عمره 33 يوماً، بدأت بالصراخ والبكاء إلى درجة أن رفاقي في الزيارة بدأوا بتهدئتي وتخفيف انفعالاتي، كنت أرى ما انتظرته طيلة حياتي، وراء الزجاج، أردت أن أحتضنه.

وتابع: لحظة بدء أمي بالبكاء، توقفت عن البكاء كي لا تهتز معنوياتها، واستمرت انفعالاتي خلال زيارته الثانية، إلى درجة أنني أُصبت بنزيف الأنف لكثرة انفعالي.

وبين: حاولت طيلة العشرين عاماً خلال زيارات السجن، أن أدربه على لفظ "يابا"، لكنه لم يستطع نطقها.

وأضاف: من أسعد لحظات حياتي كانت نجاح عبد الله في التوجيهي، وهذا الإنجاز هو ثمرة أمه، فهي التي ربته وعلّمته ورعته إلى أن نال هذا التفوق. وحين زارني أخبرني أنه أحرز أعلى علامة بين أبناء الأسرى، فقبلت رأسه من خلف زجاج الزيارة، فهنأني الأسرى واحتضنوني في ساحة السجن.

كان لوالدته الأثر الكبير في تعلقه بي، وخاصة من خلال صورة صغيرة قامت بتغليفها وإبقائها معه طيلة الوقت، كنت معه أربعة وعشرون ساعة من خلال تلك الصورة بفضل أمه.

وحول الحياة في السجون بعد بدء العدوان على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قال زايد: انقطعنا منذ بدء العدوان وحتى يوم الإفراج عن الأهل انقطاعًا تامًا، وتعرضنا لصنوف تعذيب تمنى فيها الأسير أن يموت، وهو الأحرص على الحياة والحرية، فالحرية ليست فقط هي التحرر من السجن، بل من في الخارج ينتظره، من بقي من عائلته، كانت أصعب اللحظات هي حال أهلنا في الخارج، فقد كان هذا المجهول صعبًا علينا كأسرى وخاصة إخواننا أسرى غزة.

ويضيف زايد: نجحت أم عبد الله في امتحان صعب وقاهر، بتحمل حكمي بـ4 مؤبدات. كانت سنداً، وكنت مطمئنًا لقدرتها على تعليم عبد الله وتربيته.

ويتابع: لأن عائلتنا لاجئة من بيت نوبا، فقد كنا عائلة صغيرة مترابطة، وكثف ترابطنا غياب والدنا ونحن صغار، فقد كان عمري عامين ونصف عام حين خطفه الموت، فعشنا أنا وشقيقاتي وأشقائي قريبين جدًا من بعضنا، وحين توفيت والدتي، رأيت في شقيقاتي أنهن "والدتي".

وبين، كان تعلقي بأمي كبيرًا جدًا، فقد كان أكبر خوف منذ لحظة اعتقالي هو أن ترحل عن الدنيا وأنا معتقل، ورحلت فعليًا بعد ست سنوات. كانت أمي عمود خيمتنا، وأعتبر وفاتها انهيارًا لهذه الخيمة، خوفي على زوجتي وابني وشقيقاتي.

وأضاف: جاءني مرة معتقل صديق، كنا نزور معًا، وقال لي: رأيت أم عبد الله وعبد الله في غرفة الزيارة لكنني لم أر والدتك، فقلت مباشرة: أمي ما بردها عن زيارتي إلا الموت، أمي ماتت.

لكنها لم تكن ميتة، بل وقعت في الطريق وهي تقطع الشارع بسرعة مع عبد الله، وجرى نقلها إلى المستشفى ليتبين أنها أصيبت بجلطة على الدماغ ولاحقًا احتاجت إلى عملية قسطرة، واستمر عذابها لأكثر من سنة ونصف. تعبت في 16-12-2010 ورحلت في 1-5-2012، وظلت طوال هذه المدة تصاب بانتكاسات صحية.

وتابع: توفيت أمي بينما كنت مضربًا عن الطعام خلال إضراب الأسرى، يومها جاءتني تعزية من زميل في السجن التقى بأسير آخر وسمع خبر وفاتها عبر الراديو، بعد ثمانية أيام من وفاتها. قال لي: عظم الله أجركم، فقلت له: ليش؟ أمي توفت؟ ليصاب بصدمة أنني لا أعرف، وهنا بدأ يضرب رأسه بالحديد، بينما هدأته.

وأضاف: "آخر مرة زارتني فيها، جاءت على كرسي متحرك، فكانت مصابة بجلطة ووضعها صعب جدًا. فقد تسببت الجلطة بثقل لسانها وصعوبة حديثها".

وختم: أخرج اليوم مع زوجتي إلى بيوت أقربائنا، وأشاهد الطبيعة والجبال التي غبت عنها أكثر من عشرين سنة، وأنا أحب الطبيعة جدًا، فقبل اعتقالي كنت أخرج من البيت وألقي نظرة دائرية على الجبال كافة حول بلدتنا، وكأنني ألتقط لها صوراً في الذاكرة لتظل معي هذه المدة الطويلة والصعبة، والآن أرى مستقبلي في زوجتي وابني، أحاول منذ الآن أن أعوضهما عن أيام السجن الطويلة والمرة، الآن هما مشروعي عبد الله وأمه.