بقلم: بشار دراغمة

في قلب مدينة نابلس، حيث تشهد الحجارة صلابة الروح وشموخ الكرامة، يقف ركن قريب من ميدان الشهداء شاهدًا على ذاكرة لا تشيخ، فهناك عند زاوية الحنين والعراقة، ترسو مركبة إطفاء، ليست مجرد قطعة حديد صدئة، بل هي حكاية نسجتها النار وصاغها الرجال وأضاءتها عزائم لا تخبو.

هذه المركبة، التي أطلقت هديرها الأول في عام 1958، لم تكن يومًا مجرد آلة صماء تسير على أربع عجلات، بل كانت روحًا تسابق الزمن لتهب الحياة.

أمس، أزاحت بلدية نابلس الستار عن تلك السيارة، لم يكن الحدث لإخراجها من الخدمة ودفن ذكرياتها بعدما خرجت فعليًا عن الخدمة عام 1981، بل لتخليد صهيلها الذي ما زال يتردد في أروقة الذاكرة بعدما حملت المركبة عبء النار ولم تنحن، خاضت معارك لهيبها كما يخوض الجندي حربه بشرف، وظلت شاهدة على لحظات فارقة في تاريخ نابلس وفلسطين.

كيف تنسى تلك المركبة لهيب المسجد الأقصى وهي تشق طريقها نحوه، لا تعبأ بجغرافيا أو حدود؟ كيف تغفل خطاها التي عبرت مدن الضفة، حاملة معها رسالة واحدة أن للإنسان هنا إرادة لا تخضع وقلب لا يستسلم.

بعد أن أزاح محافظ نابلس غسان دغلس ورئيس بلدية نابلس حسام الشخشير الستار عن المركبة، تحولت في لحظات إلى مزار يأمه الناس حيث تطل المركبة بطلائها الأحمر وكأنها تقول: "أنا هنا، أروي قصصًا من نار ونور، وأحمل ذاكرة أمة لا تزال تنبض".

هناك يقول الحاضرون إنها ليست مجرد مركبة، إنما حكاية شجاعة معلقة بين ماضٍ يلهم ومستقبل ينتظر من يروي قصة الأبطال الذين جعلوا منها أكثر من مجرد وسيلة، بل رمزًا يروي بأن النار مهما استعرت فإنها تخبو أمام إرادة الحياة.

يتحدث دغلس ولسان حاله يقول: إن المركبة العتيقة لم تكن مجرد قطعة معدنية صامتة، بل كانت أرشيفًا نابضًا لحكايات حملتها السنون، وصورًا نقشتها المواقف.

يقول دغلس عن تلك المركبة: إنها "ذاكرة حية تحمل في طياتها قصص أجيال أبت إلا أن تخدم هذا الوطن"، وأكد أن الاحتفال ليس فقط تكريمًا للماضي، بل هو دعوة لترسيخ قيم الانتماء والعمل الجماعي في الحاضر والمستقبل.

بصوت واثق ونبرة تنبض بالاعتزاز، استعرض الشخشير، مسيرة قسم الإطفاء منذ تأسيسه عام 1958 قائلاً: "هذه المركبة ليست مجرد أثر قديم، بل هي شاهد على انتصار الإرادة في وجه الصعاب". واستطرد في الحديث عن الجهود التي قادتها البلدية لتحويل قسم الإطفاء إلى مؤسسة عصرية قادرة على مواجهة أعقد التحديات.

أما مدير إطفائية بلدية نابلس سلطان الميناوي، فقد استعاد لحظات من زمن مضى، حين كانت تلك المركبة أول أمل يضيء دروب نابلس وضواحيها. وقال: "هذه المركبة خدمت نابلس في أحلك الظروف، وامتدت خدماتها إلى محافظات أخرى، حتى أنها شاركت في إطفاء حريق المسجد الأقصى عام 1969".

وسط تصفيق الحاضرين، بدا وكأن المركبة تهمس بشكرها لكل من أنقذها من غبار النسيان. وبينما أسدل الستار، لم يكن ذلك سوى بداية حوار جديد بين الماضي والحاضر.