في مشهد سياسي أثار الكثير من الجدل، ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطاب القسم الذي حمل في طياته ملامح خطاب سياسي انتقامي وتحريضي، يتحدى القيم الأساسية للديمقراطية الأميركية ويعمق الانقسامات داخل البلاد. هذا الخطاب الذي اتسم بنزعة شعبوية واضحة، يعكس توجهات سياسية تهدد ليس فقط الاستقرار الداخلي للولايات المتحدة، بل أيضًا دورها كقوة عظمى على الساحة الدولية.
- الخطاب والانقسام الداخلي
ارتكز خطاب ترامب على مهاجمة الفكر الليبرالي ومبادئ التنوع، مروجًا لفكرة "الجدارة" كبديل، مع تجاهل واضح للقضايا التي تمس العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات. هذا الهجوم المتكرر على المبادئ الليبرالية يُعزز الانقسام الداخلي ويغذي صراعات إيديولوجية عميقة بين التيارات السياسية المختلفة. كما أن اللغة الانتقامية الموجهة نحو مؤسسات مثل وزارة العدل الأميركية وإلغاء العديد من القرارات السابقة وإعلان قرارات جديدة في أول يوم له تُفاقم أزمة الثقة بين الشعب ومؤسساته.
- الإرادة الإلهية وتبرير السياسات
استخدام ترامب لمصطلح "الإرادة الإلهية"، سواء في سياق الطموحات العلمية مثل رفع العلم الأميركي على المريخ، أو في تبرير سياساته الداخلية والخارجية، يعكس محاولة إضفاء شرعية دينية على نهجه السياسي. هذا الأسلوب يذكرنا بلغة المستعمرين الأوائل الذين برروا استيطانهم لأميركا بشعارات دينية مماثلة. اليوم، يتم توظيف هذه اللغة لتبرير سياسات أكثر تشددًا تُقصي الآخر وتُعزز الانفرادية. بشكل مشابه، يستخدم المستوطنون الصهاينة في وطننا فلسطين مصطلح "الإرادة الإلهية" لتبرير وجودهم في فلسطين وادعاء ملكيتهم لها، مستندين إلى حجج دينية تدعي أن الأرض مُعطاة لهم من الله. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة تطابق في الأسلوب بين ترامب والمستوطنين الصهاينة، حيث يسعى كلاهما إلى إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، مما يعزز من النزعة الفوقية ويُعطي الانطباع بأن إرادتهم هي جزء من خطة إلاهية لا يمكن الطعن فيها.
- السياسة الخارجية، تجاهل للقضايا الإنسانية
على الصعيد الخارجي، كشف الخطاب عن توجهات أحادية الجانب انحازية بالطبع، حيث تم تجاهل القضية الفلسطينية والحل العادل المرتبط بها بضرورة إنهاء الاحتلال.
وفي سياق متصل، وفي الوقت الذي تحدث فيه ترامب عن الأسرى الإسرائيليين الذين تم إطلاق سراحهم مؤخرًا من قبضة المقاومة الفلسطينية، أغفل تمامًا الإشارة إلى قضية الأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في السجون الإسرائيلية بعشرات الآلاف منذ عقود. هذا التجاهل ليس فقط انحيازًا سياسيًا، بل يعكس أيضًا فكرًا عنصريًا وفوقيًا يعزز التمييز بين القضايا الإنسانية بناءً على الانتماء العرقي والسياسي. وتُظهر هذه النقطة كيف أن خطاب ترامب يعزز من تمييز المعاملة بين الشعوب والقضايا، مما يقوض من موقف الولايات المتحدة المفترض "كمدافع عن حقوق الإنسان".
بدلاً من ذلك، أعطى ترامب الأولوية لدعم المستوطنين الإسرائيليين، في خطوة تعزز الانحياز الأميركي الواضح تجاه إسرائيل. هذا التجاهل للقضايا الحيوية يجعل الولايات المتحدة تبدو أكثر انعزالاً وأقل التزامًا بالسِلم العالمي. وفي هذا السياق، تبرز التناقضات في سياسة ترامب تجاه إسرائيل. فرغم دعمه القوي لإسرائيل، إلا أن هناك تيارات داخل الولايات المتحدة قد تؤثر على سياسته في هذا المجال. بعض مؤيديه من البيض الذين لديهم نزعات عنصرية قد يرون أن الدعم الأميركي لإسرائيل يُكلف البلاد أكثر من اللازم، ويجب تقليص هذا الدعم. من جهةٍ أخرى، الشخصيات المؤثرة التي ساعدت في تمويل نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، تواصل دعمها القوي لترامب وتوجهاته نحو تعزيز الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان من خلال الموافقة المتوقعة له على ضم مناطق "ج" من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، ومع ذلك لا شيء يقف عائقًا أمام ترامب في دعم إجراءات الضم الإسرائيلي لكافة المناطق من الضفة الغربية، وذلك في ظل التحديات الداخلية والعالمية التي قد تفرض عليه خيارات مختلفة، إلا أنه سيستفيد من الصمت الإقليمي بما يشابة ذلك الصمت السابق من عدوان الإبادة الاسرائيلي على غزة.
- حروب بأشكال مختلفة
في خطابه الأخير الذي أثار الكثير من الجدل، رسم دونالد ترامب صورة متناقضة لدور الولايات المتحدة في العالم. فبينما أشار إلى نيته الابتعاد عن خوض حروب جديدة، مؤكدًا رغبته في توفير المال والموارد البشرية، تجاهل في الوقت ذاته التكلفة الباهظة التي تفرضها الحروب غير المباشرة، سواء كانت حروبًا بالوكالة أو تجارية. هذه المفارقة تطرح تساؤلات حول طبيعة السياسة الأميركية تحت قيادته ومدى تناقض الخطاب مع الممارسة خاصة بما هو معروف عنه بعدم استقرار توجهاته وتبدل أرائه. إن الحروب غير المباشرة، ورغبته في استرجاع السيطرة على قناة بنما، كما والموقف من كندا والمكسيك وكوبا التي أعادها إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، تظهر كيف يمكن للولايات المتحدة أن تؤثر على الأحداث العالمية من خلال التدخلات السياسية والاقتصادية بدلاً من الاعتماد على العمليات العسكرية المباشرة. وبالمثل، الحروب التجارية الحالية، مثل النزاع التجاري مع الصين، هو امتداد لهذه الاستراتيجيات التي تستخدم الاقتصاد كأداة للتأثير والسيطرة على الدول الأخرى. إلى جانب رغبته بإرسال الجنود الأميركيين لمحاربة الهجرة غير الشرعية وإعلان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية هي تحديات جديدة.
- كيف يمكن لنا نحن للفلسطينيين مواجهة هذا الخطاب؟.
من أجل مواجهة سياسات ترامب القادمة في فترته الرئاسية الثانية، يجب علينا نحن الفلسطينيين تبني سياسة واضحة ورؤية استراتيجية متماسكة، مستفيدين من الدروس التي من المفترض أننا أدركناها خلال فترة ولايته الأولى، وكذلك من تجارب السياسات الأميركية في عهد بايدن ومن سبقوه. إن التركيز على تعزيز المصالح الوطنية الفلسطينية والوصول إلى تنفيذ حقوقنا غير القابلة للتصرف يشكل نقطة انطلاق مهمة لبناء استراتيجيات فعالة للتعامل مع ما جاء في رؤية ترامب في الخطاب، وبالاستفادة أيضًا من التناقضات القائمة أو الخلافات داخل إدارة ترامب حول نتنياهو والسياسات الإسرائيلية والضغوطات الممكنة عليها من جهة، ومن إعلانه حول رغبته في رؤية استقرار في منطقتنا من جهة أخرى.
لذا، فقد يتعين على القيادة الفلسطينية تحديد الأولويات، والتعامل بحذر مع التوجهات الأميركية في ظل ما سيحيط بالنفوذ الدولي للولايات المتحدة وحالة الانقسام الداخلي لديها التي اعتقد بتفاقمها خلال الفترة القادمة وتأثيرها على دورها الدولي.
وفي هذا المجال يجب تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية من خلال توسيع مشاركة فئات شعبنا خاصة من المستقلين والشباب لتطوير دور وأداء منظمة التحرير لتعزيز مكانتها التمثيلية وكصاحبة ولاية قانونية وفق القرارات الدولية، لتحصينها من محاولات تدخل ترامب المتوقعة تحت شعارات "السلطة المتجددة" ولتمكينها من تحقيق التوازن بالتعامل مع سياسات ترامب سندًا للقرار الوطني المستقل وتعزيز مكانة القضية الفلسطينية على الساحة الدولية وعزل إسرائيل وصولاً لإنهاء الاحتلال أولاً.
- بداية التراجع الأميركي؟.
يرى البعض أن خطاب ترامب قد يكون نذيرًا لانهيار "الإمبراطورية الأميركية"، حيث تعكس سياساته نزعة نحو تقويض القيم الديمقراطية والانغلاق على الذات. تعميق الانقسام الداخلي وفقدان النفوذ العالمي نتيجة الخطابات العدائية قد يؤديان إلى تآكل القوة الأميركية تدريجيًا.
إن الوقت وحده سيكشف ما إذا كانت أميركا قادرة على مواجهة هذا التحدي، أم أنها ستسير نحو مزيدٍ من الانقسام والتراجع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها