بقلم الكاتب اوس ابو عطا

ماذا يعني أن تطلع زهور برية صفراء وبيضاء وشقائق نعمان حمراء في الحفر التي خلّفتها القذائف العشوائية، وترتادها الفراشات والنحل واليعاسيب كأن مجازر لم ترتكب ودماء لم تسفك وأبنية لم تتهدّم وأحياء كاملة تنسف من جذورها المكانية والتاريخية وتعود أرضا قاحلة.

كيف تنام دعسوقة حمراء باطمئنان وسكينة في بطن زهرة ليلكية، والزنانة تذهب وتجيء والخوف يسربل الصدور والهلع جاثم منذ عدة أشهر في محاجر العيون.

ماذا يعني أن تعشش الطيور من عصافير وسنونو وحمام بري وتؤسس النحلات خلاياها وتخرج العسل الصافي في الفجوات التي أحدثتها القذائف وطلقات 23 الكبيرة و14 ونصف ورصاص القناص العشوائي في جدران المنازل.. هل هذا يعني أن قوى الشر في الحرب تتواطأ مع العصافير والحمام البري وتحفر لها أعشاشا في السقوف والحيطان، وهي يتوقف عليها فقط جلب بعض القش والخيوط!

كيف لشتلة ريحان غضّة أن تنثر عبقها في نفس المكان الذي تم قتل صاحبها فيه وهو يقوم بسقايتها والعناية بها، وكيف لشجرة ياسمين أن يظل لون زهرها أبيض، بعد موت زارعها وساقيها وألا يجب أن تتسربل زهورها بالسواد عوضا عن البياض إكراما لذكراه ووفاء له.

هل هذا الجمال البري يعمل كوافيرا للحرب الشمطاء ويبرّج وجهها القبيح المتغضن ويشدّ جسدها المترهل..

كيف تعود الطيور المغردة والنباتات الخضراء إلى الأحياء التي هجرها سكانها بلا رجعة؟

بدلا من أن تستغل الفراغ الناجم عن الهجرة، أليس حريّا بها أن تحرر العصافير التي في الأقفاص حيث تركها أصحابها بلا حب أو ماء لكي ينجوا بجلودهم من سياط المعارك، أو على الأقل تقدم لها الماء والغذاء، ألم تصدع هذه الطيور رؤوس الأشجار وهي تطالب بالحرية لأشقائها من أقفاص البشر.

لم أفهم هذا التناقض، هل هو تواطؤ مع الحرب وقوى الشر أم هو اعتراف بالهزيمة وإقرار بالضعف والهوان.

وفي المقابل، كيف لنا أن نطلب من العصافير والأزهار البرية الملوّنة أن تتحدى زعيق المروحيات وزئير الدبابات وتوقف عواصف العنف القادمة من بعيد.

نيابة عن أهل غزّة الكسيرة، أود شكر كل النباتات البرية التي خرجت متحدية الهولوكست الإسرائيلي، وتحديدا أود شكر الخبيزة، تلك الوفيّة العفيفة، والتي أنقذت عائلات بأكملها وأطفالا بأحلامهم الوردية وأمنياتهم الصغيرة على الاستمرار في النجاة وعدم الموت بسبب المجاعة.

كما أود شكر كل الأقمشة القديمة التي تكسو أجسادهم منذ أكثر من سبعين يوما أو أقل بقليل أو أكثر بكثير، فهناك من ارتدى بنطالا لمدة ثلاثة أشهر متتالية ومن ارتدى قميصا لمدة شهرين وأكثر.

وهناك الكثير من الأسمال القديمة التي يتناوب عليها غالبية أفراد الأسرة، كما أود أن أخصص الشكر لثوب الصلاة الذي ترتديه النسوة، فقد بات زيّهن الرسمي بعد السّابع من أكتوبر.

النساء الفلسطينيات اللواتي يتبرجّن بالدمع والغبار، ويتكحلن بالأرق والقلق، وتغفو وتستيقظ أعينهن وهن يرتدين الحجاب والملابس الطويلة الفضفاضة، حتى إذا استهدف مسكنهن صاروخ أعمى، فارقن الحياة وهن بكامل عفافهن وصبرهن.