بقلم: عبد الباسط خلف

تسكن في ذاكرة عاهد خالد شعبان التفاصيل الدقيقة لارتقاء منتهى عوض الحوراني، أول شهيدة في جنين بعد النكسة، والتي لقبتها أمها بـ "سدرة المنتهى".

واستطرد شعبان، مشرف الكشافة ومعلم الرياضيات المتقاعد، اللحظات الصعبة التي شهدتها جنين ظهيرة الإثنين في الحادي عشر من تشرين الثاني 1974، حينما انطلقت مسيرات طلابية من ذكور جنين الثانوية المجاورة لمنطقة المعلب البلدي حاليًا، اخترقت الشوارع الرئيسة، وكانت وجهتها بنات جنين الابتدائية، وعندما وصلت طلعة "دبة العطاري"، التحقت بها الطالبات، وسارت نحو بنات جنين الثانوية، وتبعتها المدارس الأخرى.

- مريول ودم!

وتابع شاهد العيان، الذي كان طالبًا في الصف الأول الثانوي: أنه "رأى قرب الدوار الرئيس وسط جنين، طالبة بمريولها الأخضر والأبيض ملقاة على الأرض تنزف الدماء من أسفل أذنها، فحملها برفقة شبان إلى عيادة مجاورة لمبنى النادي الرياضي، وأخبرهم الطبيب بضرورة نقلها الفوري للمستشفى".

ووفق الراوي، الذي ولد في خريف 1956 في بلدة اليامون، فقد سارع مع الشبان في تأمين الجريحة بسيارة كانت في المكان، ولم ينتظروا وصول الإسعاف.

واستذكر شعبان انتشار نبأ استشهادها، فقد سارع للمشاركة في مسيرة تشييعها الحاشدة، ووقتها كانت سيرة منتهى على كل ألسن المدينة وبلداتها.

وأشار، وهو يحمل صورة لمنتهى بالأبيض والأسود، بأنه وعقب نحو أربعين يومًا من استشهادها، سار مشيًا من بلدته اليامون لشارع حيفا صباح عيد الأضحى، وانتظر سيارة ليصل إلى قبر الحوراني، ويقرأ الفاتحة على روحها، في أول عيد بعد رحيلها.

واستجمع بعض التفاصيل، إذ كانت عائلتها تحيط بالضريح المحاط بسعف النخيل، وسط حزن ودموع وتلاوة للقرآن.

واختتم بالإشارة إلى أن ما يشاع حول دهس منتهى بمجنزرة لم يكن دقيقًا، فعندما حملها لم تكن هناك أية آثار على جسمها، باستثناء الدماء النازفة من منطقة الأذن.

- أحلام الصيدلة

فيما جسدت شقيقتها عفاف، خلال مقابلة سابقة، أحزان العائلة وذكريات شهيدتها، التي ارتقت بزيها المدرسي، قبل أن تقترب من أحلامها بإنهاء "التوجيهي" ودراسة الصيدلة التي دخلت قلبها منذ الصغر.

وروت، وهي تحمل مطرزة نسجتها منتهى: خرج أبي إلى العمل في منجرته، وذهبت أختي إلى المدرسة، ولم يمضِ غير وقت قصير، إلا وعاد والدي مسرعًا على غير العادة، وأخبرنا بمسيرات ومظاهرات مع جنود الاحتلال وسط المدينة، وقبل أن يكمل حديثه، سمعنا أصوات أعيرة نارية، فقال والدي لنا: "راحت منتهى".

ووفق الشقيقة، فقد امتلأ البيت بالجيران وأهالي الحي والمدينة، وكان معظمهم يعرفون باستشهاد منتهى، وأخفى والدها الأمر عنهم، ووصلت برفقة أمها إلى المستشفى، وأُخبرتا باستشهادها، وطلبتا من جارهما أبو عصام العودة إلى المنزل، دون رؤية منتهى في دمها.

وأشارت الأخت المكلومة، بأن بيت عائلة منتهى ليس ببعيد عن مدرستها "فاطمة خاتون"، بينما جرحت فتاة أخرى من عائلة أبو فرحة في المكان. ويومها طلب جنود الاحتلال من والدها، بأن تدفن العائلة ابنتها بعد ساعة فقط، وهو ما لم يحدث، فخرجت لوداعها جماهير غفيرة، ودارت مواجهات عنيفة، وشن الاحتلال اعتقالات، طالت أحد المصورين. فيما صادرت مريولها الذي ارتقت به، وأعيدت كتبها إلى مدرستها، ووصلت قبرها أكاليل زهور من مدن الوطن، واتحادات المرأة.

وتحمل منتهى الترتيب الخامس في أسرتها، بين ثماني بنات وأخوين، وأبصرت النور في 20 شباط 1958.

- فساتين وألعاب

ورسمت عفاف صورة لشقيقتها، التي تستقر صورها بجدران البيت، وتصمد فساتينها ومطرزتها في خزائن المنزل وقلب العائلة، وقالت: إن أمها كانت تنادي أختها بـ" سدرة المنتهى"، وكن يلعبن معًا "الطميمة"، و"الحجلة"، و"السبع حجار"، ولا تنسى ضحكتها، وطول قامتها، وشعرها الأسود الساحل، وابتسامتها التي لا تغادرها، وطيبة قلبها، وعيونها الواسعة البنية، وكلما تشاهد صورتها وآثار بقايا دمها، تتذكر حلمها بدراسة الصيدلة، وتفوقها قبل عام واحد في "المترك" الإعدادي.

وقالت عفاف: رفضت أمي خديجة أن نعيد تسمية منتهى على بنات الأخوات والأخوة والأقارب. وكانت تقول: "هذا الاسم هبة من الله، وربنا أخذ أمانته، ولن نعيده في البيت. وقبل أن ترحل عن الدنيا، أعادت الوصية، أن نحافظ على منتهى واحدة في العائلة".

وتبعًا لما تجمعه الأخت من ذكريات ومواقف، فإن الأم التي سافرت بعد 40 يومًا من استشهاد صغيرتها، لتأدية فريضة الحج، شاهدت منتهى في منامها تطلب منها ألا تنسى هديتها، وتحضر لها بلوزة وبنطالاً، وهو ما فعلته الأم، وعادت من الحجاز بهدية فقيدتها، التي قدمتها لفتاة في عمرها.

وقالت عفاف التي أبصرت النور بعد سنتين من ميلاد منتهى: "ولدت ابنة أختي ربى أبو زيد، بعد وقت قصير من رحيل منتهى، وبالرغم من أنها لا تحمل اسمها إلا أنها تكاد تكون نسخة طبق الأصل عنها، وحين نراها نخبرها بذلك، فنحزن وندعو الله لأختنا".

تخصص عائلة حوراني وقتًا لذكرى ابنتها، فتذهب الأخوات والجيل الثاني الذي ولد بعد استشهاد منتهى إلى الخزانة، لتفقد فستانها، وللتمعن في مطرزتها التي سهرت على نسجها، فتتوزع بين الألم والترحم على روحها، مثلما سبق.

- اسم ومدرسة

وقد أشارت مديرة مدرسة منتهى الحوراني، سهى لحلوح، إلى أن الشهيدة حاضرة دائمًا بين المعلمات والطالبات، فدائمًا تجري قراءة سيرتها، وتدخل مواضيع التعبير، ويتم تفسير اسم المكان للطالبات الجدد، وسبب اختياره.

وأكدت أن قصة ارتقاء منتهى بزيها الأبيض والأخضر، وهي على مقاعد مدرسة فاطمة خاتون، كثيرة التداول في المدرسة التي أقيمت عام 2014، واحتفظت بصورة منتهى المنقوشة بالحجر.

وتبعًا للحلوح، فإن المديرة الراحلة فاطمة العمار، التي كانت زميلة منتهى في الصف، هي التي اقترحت على وزارة التربية والتعليم إطلاق اسمها على المدرسة، التي تقع في الأطراف الشمالية الغربية للمدينة.

وأوضحت المديرة أن أهالي جنين يتناقلون روايتين لاستشهاد الحوراني، لكن الأهم أنهم يجمعون على استعادة سيرة أول شهيدة ارتقت في مدينتهم بعد النكسة، ويخلدون اسمها بمدرسة كانت تضم العام الماضي 300 وتراجع العدد إلى 180 هذا العام؛ بسبب موقع المدرسة المتاخم لمخيم جنين، والذي يشهد اجتياحات متكررة.