قدم رئيس الشعب الفلسطيني أبو مازن رواية ورؤية الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وصانع تاريخها للسلام، ومنح العالم أحسن صور التمدن الإنساني الحضاري، عندما ترجم أخلاقيات هذا الشعب وثقافته في تقديس روح ونفس الإنسان، وبث منطق ومبدأ الحياة الكريمة في وطن الحرية والاستقلال، ورفض تقديس سفك الدماء والإرهاب من أي جهة كانت، لكن المنظومة العنصرية الدخيلة بمكنوناتها الفطرية السامة على جذور الإنسانية عمومًا والعربية الفلسطينية خصوصًا رفضت وما زالت ترفض الانخراط بتطبيق حل الدولتين الذي قررته الشرعية الدولية ذاتها التي منحت إسرائيل شهادة إنشاء مؤقتة، وهي ذاتها التي لا تعترف حكومة الصهيونية الدينية بقراراتها، ولا تأخذ قوانينها بأدنى نظرة اعتبار. ومن المفيد هنا الاستشهاد بقول الرئيس الفرنسي ماكرون قبل خمسة أيام تعليقًا على استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "اليونيفيل" في جنوب لبنان: "على السيد نتنياهو ألا ينسى أن إسرائيل أنشئت بقرار من الأمم المتحدة". وربما يقصد تذكيره بعبارة  "لنأت" في وثيقة كامبل، التي كانت فرنسا الاستعمارية صاغتها مع مثيلاتها الكبرى آنذاك، وهذا ما نحسبه إقرارًا بخطيئة وجريمة الدول الاستعمارية بحق الشعب الفلسطيني، نبني عليها لانتزاع الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية قبل أن يرتد المُستخدَم عليهم، ويدمر مصالحهم هنا في المنطقة وفي بلادهم أيضًا.

قد يستريح الباحثون في مضمون وشكل اليوم التالي لانتهاء حملة الإبادة الاستعمارية الصهيونية على الشعب الفلسطيني إذا اقتنعوا أنه لن يكون إلا فلسطينيًا، واقتنعوا باستحالة اجتثاث جذور هذا الشعب الممتدة في أعماق الزمان والمكان، إذ يستحيل على من أتى من خارج زمان وأرض فلسطين والمنطقة الحضارية أن يقرر مصير شعب وأرض وطنه كان وما زال فصلاً رئيسًا في كتاب الحضارة الإنسانية، بل زد عليها عنوانًا لهذا الكتاب. فنحن على يقين باستحالة  تمرير قرارات  منظومة احتلال واستعمار استيطاني عنصري – رغم اختلال توازن القوى لصالحه، وتحديدًا في بند القوة العسكرية والاقتصادية والغطاء السياسي المتكفل بتغطية جرائم حرب ساستها وأركان جيشها، والجرائم ضد الإنسانية التي ليس بمقدور الدعاية والسياسة المضادة للحق الفلسطيني التي ترعاها واشنطن من تغطيتها، فمنظومة الاحتلال "إسرائيل" المستنبتة على طريقة التوليد الصناعي "الأنابيب" أنشئت بذرتها بقرار من قادة دول استعمارية ظلوا ثلاث سنوات يبحثون في كيفية ضمان السيطرة على شعوب شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط  العربية وفي القلب منها فلسطين، حتى توصلوا للنتيجة وثبتوها في وثيقة كامبل سنة 1905، عندما كتبوا في وثيقتهم: "لنأتِ بمجموعات سكانية صديقة لنا ونزرعهم في منطقة شرق قناة السويس" أي في فلسطين، وفي هذه الكلمة يكمن سر إسرائيل، الذي يعرفه رؤساء وملوك الدول الاستعمارية، وتوارثه كل من تبعهم على كراسي الحكم  في الإمبراطوريات والدول الاستعمارية، حتى رؤساء الولايات المتحدة الأميركية يدركون هذا السر رغم أنهم لم يكونوا مشاركين في اجتماعات الألف يوم التي في نهايتها قرروا "لنأت بيهود أصدقاء لنا إلى فلسطين" أما أهدافهم فيمكن للقارئ الكريم الاطلاع على تفاصيلها في مضمون "وثيقة كامبل" لكنه يستطيع قراءة أهداف المستعمرين الكبار بما فعلته وتفعله إسرائيل في فلسطين والدول العربية القريبة والبعيدة، وكيف جسدت حكومات الصهيونية السياسية والدينية على حد سواء الكثير فيما يخص تأجيج الصراعات والحروب الداخلية العربية المذهبية والطائفية، وإبقاء الدول العربية في حالة حروب تستنزف طاقاتها وثرواتها وقدراتها، وتبقيها في حالة انعدام توازن، لمنعها من بلوغ تنمية متكاملة، وفق رؤية متنورة متقدمة.

أنشئت إسرائيل وفرضت على مؤسسات الشرعية الدولية لكنها بقيت "دولة ناقصة" لعدم وفاء ساستها بتعهداتهم المكتوبة التي قدموها بضمانة أميركية، ومنها الإقرار والاعتراف بدولة عربية فلسطينية، قررتها الشرعية الدولية كحل في 29 تشرين الثاني سنة 1947 وجسدته بقرار التقسيم 181. لكن المتعهد بقي خارج المساءلة، متمردًا كالابن العاق بحماية الضامن الذي ما زال حتى الساعة يمنحه كل أسباب القوة التي تمكنه من البقاء كمنظومة خادمة للنظام الاستعماري القديم منه والحديث، أما الدعم الأقوى فيتجلى في الحفاظ على مكانة هذه المنظومة "إسرائيل" في إطار منظمات الشرعية الدولية ومنها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كان يجب سحب اعترافها بإسرائيل لعدم التزامها ووفائها بتعهداتها، وتمردها على المبادئ الإنسانية التي التقت عليها الأمم والشعوب في هذه المنظمة الأممية، والأفظع إحراق كل قراراتها وقوانينها وشرائعها بلهيب حروب اصطنعتها، ومجازر ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل وآخرها حملة الإبادة الدموية التدميرية البالغة ذروتها في قطاع غزة، أما قوانينها العنصرية بحق أكثر من مليوني فلسطيني ظلوا في مدنهم وبلداتهم وقراهم، ولم يهجروها خلال وبعد حرب 1948، فهي الدليل الساطع على تأصل العنصرية المشتقة من التعاليم التلمودية التي لطالما حاولت الصهيونية السياسية إخفاءها وراء يافطات الديمقراطية وتمثيل إسرائيل لقيم الغرب، وفي الوجه الآخر للحقيقة جماعات وتنظيمات المستوطنين الإرهابية، المستقوية بهذه المرجعية التلمودية.