الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

أيام قليلة بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، عدنا إلى المخيم وكانت طفلتا أختي الشهيدة معنا في التشرد والقهر.. وبدأت تظهر مخالب المجزرة، مجزرة صبرا وشاتيلا. كنا نجلس في المنزل أنا وعائلتي، سمعنا دويًّا مرعبا من القنابل ووابل من الرصاص، ركضنا جميعا في مشهد من الخوف والذعر والصراخ، نتساءل: ما حدث؟ ظنا منا بأنها كأيام الاجتياح: هروب وعودة. 

سمعنا بأن قوات الجيش الإسرائيلي تحاول الدخول إلى المخيم من جانب "حي فرحات" حيث تمّ تفجير مخزن سلاح. عدنا إلى الهروب مُجدَّدا من ملجأ إلى آخر. ذهبنا أول يوم في المجزرة إلى الملجأ الذي أنشأته حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح). كنت أنا وأمي في المنزل مع والدي وابنتَي أختي، وما تبقّى من عائلتي هنا وهناك خارج المنزل، وكان لي أيضا أخت ممرِّضة في جمعية "الهلال"، والأخريات واحدة متوفّية، والأخرى متزوجة ومقيمة في بيتها.

ذهبنا إلى الملجأ وبقينا هناك أول ليلة، وقد كانت النساء يتكلمن عن الأحداث التي مرّت علينا ظُهر ذلك اليوم، ومن استشهد من جيراننا. في صباح اليوم التالي سمعنا صوت امرأة قادمة إلى الملجأ وهي تبكي بحرقة وتنتحب فقد قتلوا ابنتها وزوجها أمام عينها، ومن ثم طلبوا منها أن تذهب وتخبر الناس بما حدث، مِمّا جعل الذّعر يدبّ في صفوف جميع الموجودين.

بدأ الناس يفكّرون بأنفسهم وعوائلهم وكبار السن والأطفال.. وكانت المقاومة الفلسطينية تتصدّى ببسالة لقطعان الجيش الإسرائيلي، ومنهم من كان يفكر بالهروب إلى مناطق خارج "بيروت" حتى لا ينحصر الجميع في الملجأ.

كل الوقت كان نهارا، والحق أننا ما عُدنا نميّز الليل من النهار، حيث كانت القنابل المضيئة "تُشعل" الليلَ.. كان الوقت لا يمرّ، والساعة بألف دقيقة. لم نعرف طعم النوم أبدا، وهذا كله وما زلنا في اليوم الثاني، اليوم ذاته الذي أتت فيه المرأة لتسرد ما حصل لها ولعائلتها..

طلبت أمي مني إحضار الطفلتين لنتدبّر الأمر والخروج من المخيم.  سألتها: كيف لنا أن نذهب من هنا، وكيف سننجو وهذه الأصوات المخيفة من حولنا؟ قالت: سنتوكّل على الله. وأذكر يومها بأنّ بنات عمي لم يقبلن الخروجَ من المخيم.. فكانت وجهتنا عن طريق مخيم صبرا، لكننا ذهبنا من طريق آخر وهو طريق "حي فرحات"، لأنّ الجنود الصهاينة انسحبوا من هناك، ولم نذهب عبر الطريق الأول.

نجونا! وعند نجاحنا في الخروج من المخيم كان الظلام دامسا عكس المخيّم الذي كان غارقا في القنابل المضيئة. كنّا نريد الوصول إلى مستشفى "غزّة"، وفي طريقنا إلى هناك رأينا شابَّين مُقنَّعيَن أخذانا من طريق الى آخر، ولا أذكر شيئا الآن غير أننا كنا نمشي على رمل وليس على شيء صلب. أدركتُ بأنني أعرف هذه الأرض جيدا، إنّها محاذية للمخيم واسمها "أرض جلول"، وهذه الدائرة كلها اضطررنا على المرور بها حتى وصلنا إلى مستشفى "غزة".. مستشفى لا مكان فيه لقدم، فأعداد الناس غفيرة جدا، وهم منتشرون في كل زاوية وركن.. على المداخل والمخارج وحتى الأدراج.

مستشفى "غزّة" هو مؤسسة استشفائية تتلقّى دعمها من منظمة التحرير الفلسطينية، وكان من أهم المستشفيات التي يلجأ إليها اللاجئون الفلسطينيون في "بيروت"، وهو الذاكرة التي تحكي قصة مجزرة "صبرا وشاتيلا"، والمشاهد الأليمة التي ارتكبت فيها، والمكان الذي احتوى جثث ضحايا هذه المجزرة، وقد سُمِّي المبنى: بمستشفى "غزة، تخليدا لقطاع "غزة".