بقلم: ريم سويسي

تجلس المعمّرة أم محمد شبان "106 أعوام" على سريرها الذي لم تفارقه منذ ثلاث سنوات، كونها لا تقوى على شيء، وإلى جانبها حقيبتها السوداء التي تشبه ذكرياتها التي عايشتها بدءًا بنكبة شعبنا عام 1948 وصولاً إلى حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ نحو عشرة أشهر.

وتحتفظ أم محمد في الحقيبة ببطاقة الهوية التي تفيد بأنها مواليد الأربعين "وفقًا لما يسمى بالتسنين"، لكنها في الحقيقة قد جاوزت مئة عام وفقًا لشهادة أبنائها.

وبين ألم الحاضر وواقع الحرب، وبين ذكريات النكبة، تتأرجح ذاكرة أم محمد في مقارنة بين المأساتين، إذ تؤكد أن الحرب الحالية هي الأشرس والأفظع مما عايشته إبان النكبة.

ورفضت أم محمد النزوح في هذه الحرب، وآثرت البقاء في منزلها الكائن في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، رغم ما يتعرض له الحي من قصف متواصل وعنيف من طيران الاحتلال، إلى جانب ما تعرض له من اجتياح بري من الاحتلال وآلياته قبل أشهر قليلة، وتقول: "أرفض الرحيل كي لا تتكرر المأساة التي عشتها عام 1948"، مشيرةً إلى أنها كانت تُفضِلُ الموت على الخروج، فقد خرج شعبنا ذات مرة من دياره ولم يعد. 

وتستذكر أم محمد أحداث نكبة عام 1948، وتقول: "أكثر ما أذكره فيما تبقّى لي من ذاكرة هو ذلك اليوم الأسود الذي طرق فيه أحد جنود الاحتلال باب بيتنا الكائن في حي العجمي في مدينة يافا، وهددنا بالخروج من البيت والمغادرة وإلا سيقوم بإطلاق النار علينا".

وتضيف: "خرجنا من بيوتنا مع جميع جيراننا في الحي ونحن في قمة الخوف، هرباً من بطش العصابات الصهيونية، وركبنا البحر في قارب صغير نحو مدينة غزة، ومكثنا في البداية في خيمة صغيرة على ساحل البحر".

وفي سؤال حول الفرق بين ما يحدث اليوم من حرب إبادة ونزوح قسري ونكبة جديدة، وبين نكبة عام 1948، تقول أم محمد: "هذه المرة هي الأقسى والأفظع، فهي ليست حربًا بل طاحونة طحنت الجميع بلا هوادة، والأمر طال ولم يعد باستطاعتنا التحمل أكثر".

وتضيف: "في نكبة عام 1948 لم نعانِ مجاعة كما نعاني اليوم في شمال غزة، فمنذ وصلنا إلى غزة عمل أهلي في الصيد وكان المأكل متوفرًا، بينما حالياً لا شيء في الأسواق".

وتُكمل المقارنة بالقول: "في النكبة لم نأخذ الكثير من الأمتعة بل قمنا بدفن مقتنياتنا في الرمل على أمل العودة بعد وقت قصير وكأنها رحلة، بينما اليوم فقد تركنا كل شيء ولم نعد حتى الآن ولا نعلم متى سنعود وهل سنعود أم لا"، مشيرةً إلى أنها عندما تسمع صوت قصف طيران الاحتلال ومدفعيته، تعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم الذي هُجّرت فيه مع عائلتها، وتسترجع كمية الخوف والقلق التي عاشتها، مؤكدةً أن هذه الحرب تعادل ألف نكبة، متمنيةً أن تنتهي، وأن تعود إلى يافا. 

وتواصل قوات الاحتلال عدوانها على قطاع غزة، برًا وجوًا وبحرًا، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ما أسفر عن استشهاد 39400 مواطن، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، وإصابة 90,996 آخرين، فيما لا يزال آلاف الضحايا تحت الركام وفي الطرقات حيث لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم.

ويقول المحلل السياسي الدكتور شوكت أبو صفية: "لا نبالغ إن قلنا إن ما يحدث اليوم في غزة من شدة المجازر والقتل والدمار، أضعاف مضاعفة لما مر به الفلسطيني أثناء النكبة".

ويضيف: "عندما ارتكبت العصابات الصهيونية المجازر عام 1948، كان الهدف منها التخويف والتشريد، أما اليوم فالهدف مما يحدث ليس التشريد بل قتل أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين"، مشيرًا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني حاليًا، يسعى إلى مسح هوية السكان الأصليين ليستولي على الأرض بالقوة ويمنع إنشاء دولة فلسطينية.

ويوضح أبو صفية أن الحرب التي يشنها الاحتلال متواصلة منذ نحو عشرة أشهر وتقارب على عام كامل، أما نكبة عام 1948 فلم تُطل إلى هذه الفترة، وارتكبت العصابات الصهيونية في عام 1948 أكثر من سبعين مجزرة، بينما ارتكب الاحتلال في غزة أضعاف هذا العدد عشرات المرات.

وحصيلة الشهداء خلال عام 2023 والأشهر السبعة الأولى من عام 2024، تعد أكبر حصيلة شهدتها فلسطين منذ نكبة 1948.

وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في النكبة أكثر من 15 ألف شهيد، بينما تجاوز عدد الشهداء العرب الـ3500 شهيد، وفقًا لتقرير مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.

وبلغ عدد الأسرى العرب في النكبة 5204 منهم 4702 أسير فلسطيني، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بينما بلغ عدد المعتقلين في سجون الاحتلال نحو 9700، حتى بداية شهر تموز/ يوليو 2024، فيما بلغ عدد المعتقلين الإداريين 3380، كما بلغ عدد من صنفتهم إدارة سجون الاحتلال من معتقلي غزة بالمقاتلين غير الشرعيين ما لا يقل عن 1400، وفقًا لمؤسسات الأسرى.