التقيت بالأخوة الزملاء ربحي عوض وعصام بسيسو في مقر الإذاعة أما بقية الأخوة فقد ذهب كل واحد منهم إلى أهله بعد هذا الغياب القسري أما ربحي وعصام فالأهل يقيمون في القاهرة.

الاستعداد يجري على قدم وساق، وطلب الشهيد الرمز أبو جهاد منا تجهيز أنفسنا لركوب شاحنات الباهي الأدغم للذهاب إلى سوريا. أمر الأخ أبو جهاد بصرف المخصصات للزملاء ورفضت أن استلم فلساً واحداً لإيماني المطلق أننا نحن من يجب أن يدفع للثورة. هذا أولاً، وثانياً لعدم وجود قيود لي لدى مالية الحركة بالرغم من إصرار الأخ ابوجهاد على ذلك. والحمدلله انني تذكرت جواز سفري وحملته معي وهو الشيء الوحيد الذي كان بحوزتي. أكرمني الشباب بالجلوس إلى جانب السائق في الشاحنة وهم اعتلوا ظهرها فلذلك وعند وصولنا الحدود السورية اعتقدت المخابرات السورية هناك ربما أكون أحد قادة هؤلاء الشباب! ولا أدري لماذا كان إصرارهم (السوريين) على أنني من الجبهة الديمقراطية رغم نفيي الحازم لذلك. وصلنا دمشق ونزلنا في فندق تدمر حيث استقبلنا شباب الحركة هناك وعلى رأسهم أستاذنا الكبير فؤاد ياسين. لم أكن أملك شيئاً، زارنا الأخ أبو مازن وكان المفوض المالي للحركة وأمر بصرف (200) مئتي ليرة سورية لكل واحد منا كي نشتري بيجاما وبعض الملابس الضرورية الخفيفة وأدوات الحلاقة. لم أحرك ساكناً نظر إليّ الأخ أبو صخر متسائلاً: شو يا أبو الخلد كمان هاي ما بدك تاخدها؟! أخذتها واشتريت ما أحتاجه وبقي بعضها بحوزتي. إلا أن الزملاء صرفوا المبلغ كله وتمحكوا بي كي نطلب زيادة، لكنني رفضت أن أطلب فما زال معي بقية!

وفي لقطة أثرت في نفسي فيما بعد حيث فوجئت بعد إصرار الأخ أبو صخر أن أحصل على مخصص شهري أسوة بزملائي في الإذاعة، بعد أن تخرجت من الجامعة استلمت أول مخصص مخصوم منه (200) ليرة، وأخبرني المندوب المالي أنها سلفة سابقة عليّ! بالرغم من أنني لم استلم مخصصا منذ إنشاء الإذاعة وحتى ذلك الوقت 1971م! لكن اتضح لي أنه المبلغ الذي أمر الأخ أبو مازن بصرفه لنا عند وصولنا دمشق!

بقينا فترة في فندق تدمر التقيت خلالها بالقوات التي التحقت بنا من الجيش وخاصة أخي نافذ الذي عرّفني على بعض ضباط تلك القوات كالرائد أبو موسى سعيد مراغة وآخرين، وكانوا جميعا شبابا مفعماً بالحيوية والسرور لالتحاقهم بنا.

لم يكن بعد قد بدأ العمل لإنشاء محطة إذاعة في سوريا لذلك غادرت إلى القاهرة لاستكمال دراستي وكنت ما زلت أقيم في مدينة البعوث الإسلامية. وفي نفس الوقت الذي أعلن فيه السادات قراره بإعادة فتح إذاعتنا وإذاعة المنظمة لكن كان شرطه دمج الاذاعتين بإذاعة واحدة.

فرحنا بالقرار وكلف الأخ أبو صخر بالعمل على دمج الاذاعتين فاختار من اسم إذاعة منظمة التحرير التي كانت تسمى: صوت فلسطين.. صوت منظمة التحرير الفلسطينية اختار صوت فلسطين. واختار من إذاعتنا التي كانت تسمى: صوت العاصفة.. صوت فتح.. صوت الثورة الفلسطينية: صوت الثورة الفلسطينية.

لذلك أصبح اسم الإذاعة الجديد: صوت فلسطين... صوت الثورة الفلسطينية.

واجهتنا هنا مشكلة الأناشيد، حيث أن كثيرا من أناشيدنا فيها اسم فتح فكان القرار إما شطب كلمة فتح من الأناشيد أو عدم إذاعتها مطلقا من الإذاعة الجديدة. جربنا الحل الأول فأصبحت الأناشيد (قرعة!) لا طعم لها ولا ذوق، وكم شعرت حينها بجمالية اسم فتح. لذلك تم استبعاد تلك الأناشيد ونحن في غاية التأثر.. كنشيد باسم الله باسم الفتح.. باسم الثورة الشعبية. ونشيد بلادي بلادي فتح ثورة عالاعادي، ونشيد أنا ابن فتح، وغيرها من الأناشيد. بدأنا مرحلة جديدة تتطلب أسلوبا جديدا.

في هذه الفترة من العام 1971م جاءنا صوت جديد قريب من صوتي لكنه صوت هادئ على غير ما اعتدنا عليه في صوت العاصفة. اعترضت عليه في البداية بسبب هدوئه، وهو دائما يذكرني بذلك ويقول إن الوحيد الذي رفضني هو خالد. وكان لي سابقة بهذا الخصوص، ففي السنة الأولى من بدء الإذاعة تقدم لنا أحد مذيعي صوت العرب وهو فلسطيني لجأ من دمشق إلى القاهرة قبل إنشاء إذاعتنا وإذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، وافق عليه الأخ أبو صخر والأخ هايل عبد الحميد لكنه ليس بالصوت الجميل أو الاداء الجيد. فاعترضت بشدة واضعا نصب عيني شعار الأخ أبو صخر عدم استخدام أصوات سابقة معروفة لدى المستمع العربي أثناء هزيمة حزيران وارتبطت أيضا بتقديم الحفلات والسهرات المنوعة والأغاني ما اضطر الأخوين أبو صخر وأبو الهول الاعتذار للمذيع إياه، وعودتي إلى العمل بعد ذهابه.

انتهت مرحلة البلاغات العسكريه التي اشتهرت بها إذاعة صوت العاصفة وخفت العمليات العسكرية التي كانت تنطلق من الأغوار في الأردن بعد خروجنا من قواعدنا هناك إلى جنوب لبنان وسوريا، لذلك بدأ التفكير ببرمجة الإذاعة، حاولت في البداية الاعتراض لدرجة أن بعض زملائي أطلقوا علي اسم ليكود الإذاعة! طبعا كنت ضد اللقب ولكنني كنت متمسكا بأسلوب العاصفة.

كان من المفروض أيضا أن تتغير إشارة الإذاعة بعد الدمج فأراد الأخ أبو صخر أن تكون الإشارة الجديدة بصوت الأخ عارف وهو صاحب صوت قوي وجميل وأداء مميز، لكنني اصررت على بقاء صوت عبد الشكور متعللا أننا غيرنا الإشارة ولا اعتراض، فهل يعقل أن نغير أيضا الصوت الذي تعودنا عليه وتعودت عليه جماهيرنا، إلا عبد الشكور! ونجحت في ذلك من خلال التصويت، والكل يذكر صوته وهو يهدر: " هذا صوت فلسطين.. المعبر عن إرادتكم، يحييكم ويلتقي بكم.. الخ".

بدأت عملية البرمجة، والفضل في ذلك يرجع إلى الأخ نبيل عمرو وأعترف أنه صاحب بعد نظر، حيث أقنع الأخ أبو صخر بذلك إذ لا يمكن ملء الهواء إلا بالبرامج الثابتة، وعند أي حادث طارئ يمكن أن ينقلب الحال ونغير البرامج وننطلق على الهواء مباشرة كالسابق.

حديث الأرض المحتلة، أصبح برنامجا سياسيا يوميا يكتبه الشاعر محمد حسيب القاضي وغالبا ما يذيعه خالد، وبرنامج كلمات إلى فلسطين يكتبه يوميا يحيى رباح ويذيعه رسمي أبو علي ثم تتابع عليه كل من نبيل، خالد، بركات، ومريد البرغوثي. برنامج بلادنا فلسطين شاركتُ في كتابته بعض الوقت ثم تخصص فيه في وقت لاحق الأخ يوسف القزاز وبرنامج أناشيد الثورة والوطن وكان يعتمد على قصائد شعراء الوطن المحتل بشكل خاص وعلى شعر المقاومة وكنا أيضا نتاوب على إذاعته، وبرنامج خبر وتعليق كان الأخ الطيب يكتبه وهو يقرأ الخبر وأنا أعقب وفي كثير من الأحيان ما يكون التعليق فيه نبرة استهزاء محببة قيل لي أني برعت في أدائها.

انتشر عملنا إلى عدة بلدان عربية رحبت بتسليم موجات إذاعتها لصوت فلسطين، الإذاعة في بغداد تناوب على العمل فيها الكثيرون من مذيعين ومعلقين: يوسف القزاز، عزمي خميس، يحيى رباح، حسن البطل، نبيل عمرو بالإضافة إلى الكادر المحلي الذي تم تدريبه هناك. والإذاعة في الجزائر تناوب عليها أيضا بركات زلوم، يحيى رباح، يوسف القزاز بالإضافة إلى الكادر المحلي: أبو إبراهيم كنعان، يعقوب شاهين ثم عيسى عبد الحفيظ وزياد ابو الهيجاء. والإذاعة في صنعاء حيث كنت الوحيد فيها طيلة عام كامل تسلمها بعدي محمد الدرهللي وعصام عنان. والإذاعة في عدن التي أسسها المرحوم عبد المجيد فرعوني ومعه محمد الباز.

في العام 1973م وأثناء عملي في إذاعة الثورة الفلسطينية أعلن في القاهرة عن افتتاح كلية الإعلام في جامعة القاهرة للدراسات العليا ويحق للعاملين في أجهزة الإعلام في مصر ممن أمضوا ثلاث سنوات فما فوق أن يلتحقوا بقسم الدراسات العليا في الكلية. ومن حسن حظي أنني أمضيت السنوات الثلاث في عملي في الإذاعة مما يخولني للالتحاق بالدراسات العليا وكان معي من العاملين في الإذاعة ما ينطبق عليهم الشرط المرحوم محمد اسماعيل والأخت أسماء عرفات شقيقة الأخ أبو عمار، وبما أن جميع الملتحقين في هذه الكلية هم مذيعون ومذيعات ومخرجون ومخرجات في الإذاعة والتلفزيون اخترت تخصص الإذاعة والتلفزيون بالإضافة إلى السينما للدراسة التي ستسغرق سنتين قدمت خلالها بحثين أحدهما عن الإذاعة والتلفزيون والآخر عن السينما تمّت إجازتهما وحصلت عندها على دبلومي الدراسات العليا (الماجستير) بإشراف الدكتورة سهير بركات أستاذة الاعلام.

كان من أهم الأساتذة الذين أشرفوا على تعليمنا الخبير الإعلامي المصري الراحل محمد فتحي وكان أحد كبار المذيعين في فترة إنشاء الإذاعة المصرية وكان لطيفاً في تعامله معنا جميعاً. وبسبب خبرته الإعلامية الطويلة وعلاقاته المتشعبة في العالم اقترح أن نحتفل بتخريجنا بزيارة عدد من البلدان الاوروبية التي كانت له علاقات صداقة مع مسؤولي إذاعاتها وتلفزيوناتها وفعلاً تمّ ترتيب استضافة من هذه المؤسسات لنغادر عن طريق البحر في رحلة إلى روما وباريس ومدريد.

واجهتني مشكلة أن جواز سفري الأردني منتهية فترة صلاحيته بالإضافة إلى أن تكاليف الرحلة لم تكن بحوزتي!

حُلّت مشكلة الجواز الذي تمّ عن طريق السفاره الأردنية في القاهرة بواسطة أحد الأصدقاء المصريين، لكن السفينة كانت قد أبحرت من ميناء الإسكندرية تقل جميع الخريجين المصريين من مذيعين ومخرجين من الجنسين. فأسقط في يدي ثم أن تكاليف السفر ليست ميسرة إلا بالقليل الذي بحوزتي ولا يكفي للحاق بهم. ولكن الزميل والصديق ربحي عوض وكان وقتها معتمد الإقليم في جمهورية مصر العربية شجعني وساعدني في الحصول على تذكرة سفر بالطائرة إلى باريس للحاق بهم هناك وأعطاني رسالة لصديقه ممثل (م.ت.ف) في فرنسا الشهيد الراحل محمود الهمشري لتسليفى بعض النقود.

حملت الرسالة وجهزت شنطة ملابسي وكانت شنطة كبيرة وتوجهت إلى مطار القاهرة لاستقلّ الطائرة المتوجهة إلى باريس ومن حسن الطالع جلس إلى جانبي رجل عربي يتكلم الفرنسية بطلاقة عرفت أنه جزائري، عرف بوجهتي وأني أريد اللحاق بزملائي الذين سبقوني بالباخرة على أمل اللقاء بهم في باريس وسعدت أنه خبير في جغرافية باريس وسيساعدني للوصول إلى عنوان الهمشري هناك. ولكن كانت المفاجأة في مطار باريس أن جاء البوليس الفرنسي واعتقل هذا الرجل الجزائري باسلوب حضاري لدرجة أنني لم أعرف أنه اعتقال! إلا عندما أخبرني هو بنفسه بذلك، فاسقط في يدي ولم أدر كيف أصل إلى عنوان الهمشري لكنه أخبرني بسرعة أن لا أركب تكسي من المطار لأنه سيكلفني الكثير ودّلني على باص لايكلف إلا القليل، وفعلاً خرجت من المطار واستقليت الباص وكان قد ذكر لي أن استقل المترو إلى محطة سماها لي ومن هناك العنوان سيكون قريباً.

واجهتني مشكلة الشنطة الكبيرة والثقيلة التي أدخلتها الباص أولاً ومن ثم المترو وبعد ذلك حملتها وصعدت بها خارج نفق المترو، وكان الوقت قد قارب على المغيب وأحسست بتعب شديد خاصة لأنني غادرت القاهرة في الصباح والجو كان حاراً ونحن في شهر تموز (يوليو)، كنت أعتقد أن لغتي الإنجليزية ستساعدني في باريس، ولكن للأسف اتضح لي أنهم لا يتكلمون الإنجليزية فاضطررت أن أوقف تكسي رغم تحذير الجزائري لي بعدم استعمال التاكسي، إلا انني أردت شراء راحتي وليكن ما يكون، خاصة وأني قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى شقة محمود الهمشري الذي سيسلّفني المبلغ المطلوب لاتمام الرحلة وأظهرت العنوان المكتوب على رسالة الأخ ربحي عوض إلى الهمشري لسائق التاكسي الذي أوصلني إلى العنوان مباشرة وكان قريباً جدا إلا أنه كلفني مبلغا وقدره!

لم أجد البواب الذي من المفترض أن يكون داخل المبني ويطلقون عليه (الكونسيرج). انتظرت قليلاً وإذا بسيدة تدخل المبنى وكم فرحت عندما علمت أنها تتكلم الإنجليزية ودلتني على شقة الهمشري في الطابق الثاني وحملت الشنطة اللعينة والتعب يهدني طرقت الباب.. مرة واثنتين وثلاثة ولكن لا جواب! ماذا أفعل؟! ولا املك ما يكفيني للمبيت في باريس. وفي هذه الأثناء خرجت امرأة عجوز من الشقة المقابلة للهمشري وقالت إنه مسافر ولن يعود إلا بعد أيام. كارثة حلت بي.. ما العمل؟! حملت الشنطة وهبطت السلالم إلى الطابق الأرضي ومن حسن حظي أن السيدة التي تتكلم الإنجليزية أيضاً نزلت من شقتها خارجة إلى عملها قالت متعجبة أنت ما زلت هنا؟ اخبرتها بقصتي وبأنني أريد الالتحاق بزملائي الذين توجهوا إلى مدريد. قالت: الوقت متأخر واقترح عليك أن تنزل الليلة في أحد الفنادق ولا تضيع احتفالات باريس هذه الليلة في ذكرى الثورة الفرنسية في الشانزلزيه، واخبرتني أنها أمريكية متزوجة من فرنسي والاحتفالات جميلة. لكنها لا تدري أني لا املك ما يكفي لذلك وقد فقدت المصدر الغائب الذي كان سيعطيني المال. طلبت منها أن تدلني على القطار الذي سيقلني إلى مدريد وفعلاً ساعدتني في ذلك وركبت المترو والجوع والعطش والشنطة (بتهدّ الحيل).. تعرفت في المترو على زوجين شابين مع طفلهما حيث كنا وقوفأ داخل المترو فلا مكان للجلوس بسبب الازدحام. الشاب أسمر وزوجته بيضاء وكذلك طفلهما، سألت عن محطة القطارات التي ستقلني إلى مدريد، اتضح لي أنه من أوروغوي وزوجته فرنسية ولغته الإنجليزية مكسرة وقد لاحظ إرهاقي وتعبي فأعانني على الشنطة، وقال سادّلك أين تنزل من الميترو وكيف تصل محطة القطار فحمدت الله أن هذا الغريب في هذا المكان الغريب سيساعدني وفعلاً أشار لي أن انزل في إحدى محطات المترو ودلّني كيف التوجه إلى محطة القطارات.

ودخلت محطة القطارات وإذ بها ساحات واسعه تمتلئ بالقطارات التي تتوجه إلى مختلف المدن والبلدان ومنها إسبانيا. وقفت في طابور طويل لشراء تذكرة السفر ولم يكن معي من العملة الفرنسية ما يكفي وعندما وصل دوري بعد طول انتظار عرضت المائة دولار التي بحوزتي على الموظف لشراء تذكرة إلى مدريد لكنه طلب مني تغيير العملة وعدت مرة ثانية إلى شباك التذاكر بطابور آخر جديد! وحمدت الله على حصولي على تذكرة السفر. ولكن أي القطارات الذي سيقلني من هذه القطارات التي تملأ الساحة الكبيرة! لا أحد يرشدني فالإنجليزية لم تسعفني إلى أن صادفت شخصين يتناقشان باللغة العربية وباللهجة المغاربية. هل أنت عربي؟! سألت أحدهما نعم أنا من المغرب -أجابني- طلبت أن يدلّني على القطار الذاهب إلى مدريد وعلمت منه أن هناك عدة قطارات بمواعيد مختلفة، وطلب مني أن أريه تذكرتي فلما رآها ولاحظ موعد القطار قال أسرع قبل أن يفوتك القطار فهذا هو موعده حاولت جهدي بحملي الثقيل(الشنطة)، وبجوعي وعطشي فحمل المغربي عني الشنطة وأخد يركض وانا ألهث خلفه حتى أدركت القطار وما أن وصلت حتى انطلق بنا فوراً. فلولا هذا المغربي الشهم لضاعت التذكرة وخسرت ثمنها وبتّ ليلتها فى محطة القطارات جزاه الله عني كل خير جلست في إحدى القمرات داخل القطار وألقيت بجسدي المرهق بعد أن وضعت الشنطة جانبا وغلبني النوم. أثناء ذلك كان يمرّ مفتش التذاكر فسألته بالإشاره إن كنت أستطيع شراء الماء أو طعام أخبرني بان البائع يمرّ بين الحين والآخر داخل القطار تستطيع أن تشتري ما تشاء، مرّ البائع بالفعل وطلبت منه (aqua) ماء للشرب ولكن الذي كان معه مشروبات غازية المعروفة كالبيبسي وغيرها وهذه لا تروي ظمأ، وعلمت أن بائعاً آخر لديه طلبي فانتظرت حتى وصل وفتحت زجاجة الماء.. ويا للحسرة كانت صودا أي ماء غازيّ.. فلم أرتوِ بعد. كان القطار ينهب الأرض ويمرّ بمحطات ينزل ركاب ويطلع غيرهم إلى أن وصلنا إلى محطة نزل فيها الركاب كلهم ولكن لم يطلع أي راكب.. وبقيت في القطار وحدي أنتظر ركاباً جدداً وتَحرُّك القطار إلى هدفه في مدريد إلى أن فاجاني أحد العاملين الذين ينظفون القطار من الداخل بعد خروج الركاب مستغربا وجودي، وأخبرته أني ذاهب إلى مدريد فأشار عليّ أن أغادر القطار هذا لاستقلّ آخر. وكدت مرة أخرى أن أفقد قطاري المتوجه إلى مدريد حيث اتضح لي أن هذه المحطة هي آخر محطة للقطار الذي استقليته من باريس وهي مدينة ليون.

أخدت القطار الآخر وقد عضني الجوع والعطش واشتد ظلام الليل.. جلست في إحدى القمرات (الفلكونات) وإذ بشاب يدخل ليشاركني المكان وبيده رغيف فينو طويل ورول سلامي أومأ لي بابتسامة وجلس وأخذ يأكل أمام هذا الجائع العطش! آه على لقمة واحدة.. ثم دخلت سيدة ومعها طفلان سألت الشاب أن كان يعرف الإنجليزية هزّ رأسه بالنفي فكلّمتها بلغتها وأحسست بفرح أني وجدت من يفهم عليّ ويبدو أنها هي كذلك.. قالت إنها المرة الأولى التي تذهب فيها إلى مدريد وقلت لها وأنا كذلك، أرادت أن يدلها أحد على عنوان تريد الذهاب إليه قلت سنتعاون على ذلك عندما نصل. ودخل القمرة مجموعة من الشباب والفتيات فامتلأت واتضح لي أن هذه المجموعه هم من الإسبان. دخلنا يوماً آخر وكنت أغفو من التعب والإرهاق بين الفينة والأخرى. سألت أحد الشباب الإسبان أن كان يعرف الإنجليزية فانفرجت أساريره وعلمت أنه يتعلم الإنجليزية ولكنه لا يتقنها تماماً. المهم أننا استطعنا أن نتفاهم وأخبرته انني أريد أن اتوجه إلى السفارة المصرية حتى استدل على زملائي الذين سبقوني وكلهم مصريون لكني لا أعرف للسفارة رقم هاتف قال سنتدبر أمرنا عند وصولنا إلى كابينة الهاتف وبالفعل عند وصولنا مدريد ونزولنا من القطار توجه بي إلى كابينة الهاتف لكن السفارة لا ترد فوقت الدوام انتهى. ماذا أفعل؟ تذكرت أن أحد زملائي المقيمين معي في المدينة الجامعية مدينة البعوث الإسلامية التابعة لجامعة الازهر أعطاني رسالة موجهه إلى أخيه المقيم في مدريد، عندما علم أنني سأسافر إلى هناك. لذلك طلبت من الشاب الإسباني أن يدلني على العنوان فأرشدني إلى سيارة تكسي وهي ستقلّني إلى هناك وكنت قد حولت الفرنك الفرنسي إلى بيزيتة الإسبانية. اقلّتني السيارة إلى عنوان شقيق زميلي الذي يدرس في إسبانيا. وصلت الشقة وطرقت الباب وعرفت بنفسي وأنني حامل رسالة إلى فلان من أخيه هل هو موجود، علمت أن هذا العنوان ليس مسكنه وإنما هو مصلّى أو مسجد داخل شقة للطلاب العرب والمسلمين هناك. فدعوني للدخول وكان الجو حاراً خاصة ونحن في تموز وكانت فرصة أنني توضأت وصليت وشربت الماء البارد وأخبرت الشباب بقصّتي وأنني أريد الذهاب إلى السفارة المصرية فاقترح عليّ أحد الشباب أن أذهب إلى فندق صغير لامكث اليوم هناك ومن الفندق نتصل في اليوم التالي بالسفارة، كنت اطمع أن أجد شقيق زميلي الذي أحمل له رسالة ليساعدني ببعض النقود التي أعوضه إياها عند عودتي لأدفعها إلى شقيقه ولكن خاب فألي. تبرع الطالب الذي استقبلني في المصلّى أن يذهب بى إلى مطعم لا يوجد فيه لحم خنزير وحذرني من بعض المطاعم وساعدني بالسكن في بنسيون صغير ورخيص تمتلكه امرأة عجوز وقال لي سأمرّ عليك غداً صباحاً لنتصل أو ادّلك على السفارة المصرية حيث أنه يتقن اللغة الإسبانية وفعلاً ما إن وصلت السفارة المصرية، إلا وأجد زملائي وزميلاتي المصريين يخرجون من السفارة وكانت مفاجأة سارة لهم كيف أني استطعت اللحاق بهم، ولكن للأسف كانوا قد أنهوا زيارة مدريد ويريدون التوجة إلى باريس اليوم!! وقد زاروا قرطبة ومسجدها الشهير وشاهدوا قصور الاندلس التي كنت أُمنّي النفس أن أزورها معهم ولكن...!

نعود من حيث أتيت.. نعود إلى باريس ولكن هذه المرة مع المجموعة التي جهدت للالتحاق بها.

وصلنا باريس واستضافنا التلفزيون الفرنسي وأقام لنا مائدة غداء وكنت الفلسطيني الوحيد بين الإعلاميين المصريين.. تجولنا في المحطة الفرنسية وكل ذلك بفضل علاقة الأستاذ فتحى رحمه الله. نزلنا في بنسيون رخيص وقمنا بجولة داخل باريس حيث أن الأستاذ فتحى يعرف بعض الأماكن الشهيرة هناك منها متحف اللوفر وبرج أيفل وكنت أحاول الاقتصاد ما استطعت في شراء الأكل البسيط بسبب (القروش) القليلة المتبقية معي، حسب وصف الأستاذة سهير بركات أستاذة الإعلام والمشرفة على رسالتي في دبلومي الإذاعة والتلفزيون ودبلوم السينما التي شاركتنا رحلتنا، بحيث رتبها الأستاذ محمد فتحى.

من باريس توجهنا إلى روما وكان الأستاذ فتحى قد رتب لنا الإقامة في الأكاديمية الإيطالية ووفر علينا بذلك مصاريف السكن في فندق.. زرنا مبنى الإذاعة والتلفزيون الإيطالي والكولوسيوم وتجولنا في شوارع روما والأماكن الشعبية وسوق (بورتا بورتيزي) الشهير والرخيص ثم توجهنا إلى نابولي لنستقل البآخرة إلى الاسكندرية في طريق عودتنا في رحلة استمرت أسبوعين واجهت فيها التعب والصعوبة لكنها كانت تجربة هامة علمتني الكثير.

ركبنا الباخرة التي كانت تحمل جنسيات مختلفة وكان من بين الركاب عدد من الراهبات بلباسهن المميز عن غيرهن من الراهبات يضعن الطرحة المعروفة على الرأس بتشكيلة غطاء الرأس الفرعوني وفستان موحد اللون ولكن بنصف كم وطوله عند الركبة! وحذاء موحد اللون أيضاً بكعب واطئ.

تحلّقنا على سطح الباخرة وهي تشق عباب البحر وكان الجو صافيا مشمساً ومعظم الركاب يأخذ مكانه يستمتع بهذا الجو وتشاء الصدف أو بالأحرى الاقدار أن تجلس إلى جانبي إحدى تلك الراهبات وأخذت تقرأ في كتاب أجنبي سميك وكان من بين الزملاء في الرحلة إحدى السيدات المصريات وهي مخرجة في التلفزيون المصري أذكر اسمها وهو سهام كانت تحب النكتة اسوة بغالبية المصريين المشهورين بذلك. قالت سهام متسائلة: يا ترى يا خالد ماذا تقرأ هذه الراهبة خاصة وانت متخرّج من دراسة اللغة الانجليزية. سرقت النظر إلى الكتاب الذي بحوزتها، وهي كما قلت كانت تجلس بجانبي وحاولت القراءة لكنني اكتشفت أن الكتاب بلغة غير الإنجليزية غير أنني استطعت أن أميز بعض الكلمات، التي على ما يبدو أنه كتاب قديم باللغة اللاتينية القديمة، مثل اسم يعقوب (Jacob)، قلت للسيدة سهام وعلى مسمع طبعاً من الراهبة: يبدو أن الكتاب باللاتينية القديمة، وربما هو كتاب مقدس، ولكن النكتة المصرية يجب أن تأخذ مكانها خاصة وان الراهبة مكشوفة الذراعين وانا كذلك. فقالت سهام ضع يدك إلى جانب يدها لنرى الفرق باللون بين اللون العربي واللون الأجنبي! وإيه رايك تتجوزها يا خالد وتحولّها عن دينها، ضحكنا جميعا وبقي الحال على ما هو إلى أن وصلنا ميناء الإسكندرية وهمّ الجميع بتجهيز نفسه للنزول، وكانت المفاجأة لنا جميعا وهي أن الراهبة الأجنبية جاءت من تستعجلها للنزول وتخاطبها باللغة العربية وهي بدورها تجيبها بالعربية! فأسقط بيد سهام وأخفت وجهها بيديها وهي تقول: يا لهوي! أودّي وشي منها فين؟

الغريب أن الراهبة لم يظهر عليها أثناء الرحلة أي ردّ فعل يشير أنها تفهم ما نقول وبقيت هادئة ولم تنبس ببنت شفة! طوال الرحلة، ويبدو أنها كانت مرتاحة لحوارنا!

كانت الرحلة صعبة وشاقة، ولكنها أيضاً كانت ممتعة زادت من خبرتي ومعرفتي بأشياء جديدة لم أكن أعرفها وشاهدت ما كنت أسمع به من بعيد.


عدت إلى القاهرة، إلى الإذاعة فاستقبلني الأخ أبو صخر فؤاد ياسين (مسؤول الإذاعة) وجميع الزملاء بالترحاب ورويت لهم ما واجهته في هذه الرحلة.

· الى صنعاء:

بعد النصر الكبير الذي تحقق للأمة العربية في حرب أكتوبر (حرب رمضان ) العام 1973م استدعيت لإنشاء محطة إذاعية لنا في صنعاء فقد أبلغني الأستاذ فؤاد ياسين (أبو صخر) أن الأخوة في اليمن الشمالي على استعداد لاعطائنا موجات إذاعتهم يوميا لنذيع من خلالها باسم الثورة الفلسطينية وكان مدير مكتبنا هناك المرحوم فاروق أبو الرب ( أبو حسان) وكنت خارجا لتوّي من عملية جراحية كبيرة لاستئصال حصيات من الكلية، وتحت إلحاح كبير واتصالات متتالية من قبل الأخ أبو حسان، اضطررت للسفر إلى صنعاء رغم عدم التئام جراح العملية، وفوجئت أن اليمن الذي يقوده في ذلك الوقت مجلس للقيادة برئاسة القاضي عبد الرحمن الأرياني قد تركت لنا كل موجات إذاعتهم المتوسطة والقصيرة لنبث من خلالها وتتوقف الإذاعة اليمنية كليا، ولأول مرة يصل صوتنا أنحاء الجزيرة العربية كلها في ذلك الوقت الذي كان فية المد الثوري في المنطقة مشتعلا. فهناك اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية)، وثورة ظفار في سلطنة عمان المدعومة من فصائل الثورة الفلسطينية، وكانت العلاقة بيننا وبين النظامين في المملكة والسلطنة وكذلك الأردن في تلك الفترة سلبية. وكنت وحيدا في إذاعتنا هناك، أكتب كل شي وأذيع ما أكتب مستخدما بعض حلقات برامجنا في القاهرة مثل كلمات إلى فلسطين وأناشيد الثورة والوطن، كان الاتصال الهاتفي من صنعاء بإذاعتنا المركزية في القاهرة صعبا فلم أستطع أن استلم الخط الإعلامي اليومي من هناك لذلك اعتمدت على ما تنشرة وكالة سبأ اليمنية التي كانت تنشر ما يذاع وما لا يذاع كنشرة محدودة التوزيع. ولم نكن في ذلك التاريخ دبلوماسيين بمعنى أن نراعي ظروف البلد السياسية. فتحت النار من خلال الأخبار ومن خلال التعليقات السياسية على كل من الأنظمة في الأردن والسعودية وسلطنة عمان من خلال التأييد الكامل لثورة ظفار وبث اخبارهم. لم ينتبه أحد من المسؤولين اليمنيين لما أذيع إلا بعد أن راجعهم سفراء تلك الدول بهذا الخصوص. عندها استدعاني وزير الإعلام اليمني طالبا الرقابة على ما أذيع، رفضت ذلك بشدة بحجة أن ما أقوم بإذاعته هو باسم الثورة الفلسطينية لا تتحملون أنتم مسؤوليته. أما إذا اردتم الرقابة فلتغلقوا الإذاعة! وانسحبت احتجاجا. كانت لي علاقة جيدة بالمرحوم عبد الله الأحمر رئيس مجلس الشورى اليمني في ذلك الوقت ونائبه. وكان النائب من الوطنيين والقوميين العرب وهو الذي أصر عليّ أن تبقى الإذاعة عاملة حتى ولو بالأناشيد فقط، فان أناشيدكم نفسها- كما قال- هي تعليق سياسي بحد ذاته، هنا تركتني الحكومة أن اقول ما أريد دون رقابة، ولكن على أن أسجل برنامجنا الإذاعي كاملا وليس على الهواء مباشرة. وبذلك استطاعوا أن يعملوا المقص الرقابي ويقصوا من الشريط الإذاعي الكلام غير المرغوب فيه! وكان ذلك بالنسبة لمهندسي البث الإذاعي عملا مرهقا. فرجوني ألا أتعبهم. راجعت نفسي فعلا خاصة وأن وزارة الإعلام اليمنية أوقفت إرسال وكالة سبأ، التي كنت أعتمد على أخبارها، لي!

لم أغير اسلوبي غير الدبلوماسي حتى عندما ألقيت كلمة الثورة الفلسطينية في ذكرى عيد الثورة اليمنية في الاحتفال الكبير بتلك المناسبة بحضور الوفود والسفراء العرب وكان من الحاضرين وفد عسكري أردني كبير خبير بالتدريب العسكري، والسفير السعودي وهو من عائلة السديري المتصاهرة مع آل سعود. وكانت كلمتي تتحدث عن المقارنة بين الثورة اليمنية والثورة الفلسطينية اللتين تعرضتا للطعن من الظهر، دون أن أفصّل مباشرة ولكن كان واضحا أنني أقصد بالنسبة لنا الأردن في أيلول السبعيني، والسعودية التي دعمت الامام البدر. وإذ بالوفد الأردني كله ينسحب ما لفت الانتباه بسبب عددهم الكبير، أما السفير السعودي الذي كان جالسا في الصف الأمامي مع رئيس وزراء اليمن في ذلك الوقت الأستاذ محسن العيني، فبقي جالسا متجهما والعيني يتململ فوق مقعده (وأنا ولا على بالي) لكن لاحظت أن عضوين من مجلس القيادة التي تتولى الحكم باليمن بعد الإطاحة بالرئيس القاضي الأرياني، كانا فرحين بما أقول وشدّا على يدي بعد الانتهاء من كلمتي، أما رئيس الوزراء محسن العيني فقال لي لقد سببت لنا أزمة مع الأردن والسعودية، وهذا لا يجوز.

وجاء يوم العرض العسكري بهذه المناسبة وكان النظام الجديد في اليمن برئاسة المقدم إبراهيم الحمدي قد دعا وفدا عسكريا فلسطينيا للمشاركة في الاحتفال، وكان الوفد برئاسة الشهيد سعد صايل (أبو الوليد) ومعه اثنان أحدهما الشهيد عزمي الزغير. تأخر حضور وفدنا الذي وصل أثناء العرض العسكري، وطلبت من مذيع العرض أن يعلن وصول وفدنا إلى ساحة العرض ما لفت انتباه جميع الوفود المشاركة في الاحتفال، وكان خلفي على منصة الضيوف السفير الأردني وهو جنرال شيشاني اسمه حيدر مصطفى لم يكن حاضرا في اليوم السابق الذي ألقيت فيه كلمتي في هذه المناسبة ولم يعلم بما قلت وانسحاب الوفد العسكري الأردني فسألني عن اسم رئيس الوفد طبعا هو يعرفه فهو من زملائه في الجيش قبل أن يلتحق بالثورة. فقال: هذا صاير ختيار!

كعادة الدول في مثل هذه المناسبات تقيم الدولة في المساء حفل استقبال رسمي لكل الوفود المشاركة والمهنئة بحضور رئيس الدولة وكبار المسؤولين ورؤساء الوفود الزائرة والوفود.

وكنت في الصباح والشهيد عزمي قد حضرنا احتفالا خاصا أقامته للوفد قوات العاصفة في الجيش اليمني والاسم هنا له دلالته حيث أن قواتنا في حركة فتح اسمها قوات العاصفة، ولم يحضر الأخ أبو الوليد هذا الاحتفال. وقائد هذه القوات هو أحد عضوي مجلس القيادة الذي شد على يديّ بعد القاء كلمتي في اليوم السابق. ولقد كان استقبالنا في هذه القوات كاستقبال رؤساء الدول! ما أربك الشهيد عزمي من فخامة الاستقبال. وقد استعرضنا مع قائد هذه القوات عرضها العسكري من على المنصة الرئيسية حيث ارتجلتُ كلمة أمام هذا الحشد العسكري الرائع.

أما حفل الاستقبال فقد كان على رأس مستقبلي الوفود الرئيس الحمدي ورئيس وزرائه الأستاذ العيني. وأثناء حفل الاستقبال وكنت أقف إلى جانب مدير مكتب الرئيس إذا بالسفير الأردني يتقدم منا بعد أن أخبره الوفد العسكري الأردني عن كلمتي في الاحتفال في اليوم السابق رافعا صوته وكان صوته جهوريا مستنكرا ومهاجما لما قلت، وتركته يفرغ ما في جعبته على مسمع من مدير مكتب الرئيس الذي يقف معي وأعتقد جازما أن الرئيس إبراهيم الحمدي سمع صراخه. طلب مني مدير مكتب الرئيس ألا أرد، وأخبرني أنه سيوضح الصورة لرئيسه. وفعلا تم في اليوم التالي استدعاء السفير حيدر مصطفى حيث أبلغه الحمدي امتعاضه وأن موقف اليمن هو مع موقف الثورة الفلسطينية (واللي مش عاجبه يروَح). كان موقفا جريئا من المقدم الحمدي تجاهنا (كنا في تلك الفترة في معركة مع الأردن حول الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني). وكنت بدأت علاقة معه بعد إطاحته بالرئيس القاضي الأرياني بانقلاب أبيض ليس هناك مجال للحديث عنه، والتقيناه مرة بصحبة مدير مكتب منظمة التحرير الأخ فاروق أبو الرب حيث طلب منا أن يرى السلاح الذي كان له الأثر الكبير في معركة الكرامة ومن ثم في حرب أكتوبر وهو (الآر بي جي)، وطلب شيئا بسيطا وهو سارية (نيكل) ليضعها على سيارته التويوتا العسكرية لوضع العلم عليها. وقد تم ذلك من خلال الشهيد أبو جهاد رحمه الله.

مكثت سنة كاملة في صنعاء طُلب مني خلالها أن أنظم عمل وزارة الإعلام اليمنية! وأُخلي لي مكتب وكيل الوزارة لأداوم رسميا فيه! أسقط في يدي، كنت بالنسبة للحكومة اليمنية شيء كبير! وأنا العنصر الصغير في الإعلام الفلسطيني فسارعت أطلب النجدة من أستاذي فؤاد ياسين الذي وصلني بعد أسبوع حيث أنقذني من هذا المأزق، ووضع لهم خطة لتساعدهم في عمل وزارة الإعلام وغادرنا عائدا إلى القاهرة. وكنت بالإضافة إلى العمل الإذاعي اليومي قد حصلت على صحيفة يومية باسم الثورة الفلسطينية داخل صحيفة الثورة اليمنية وكنت احررها وحدي أيضا، ما سبّب لي ارهاقا كبيرا، حيث أن العمل في الصحيفة كان يستمر أحيانا حتى ما بعد الثالثة فجرا. وكنت اسكن في مكتب المنظمة ما يستدعي ضرورة استيقاظي قبل السابعة صباحا. المهم إنها كانت تجربة عظيمة غادرت بعدها إلى دمشق حيث عملت تحت قيادة الراحل أبو السعيد (خالد الحسن) في إصدار التعميم الحركي في التعبئة والتنظيم، وتلك تجربة أخرى. تسلم الإذاعة في صنعاء بعدي الأخوان محمد الدرهللي والمرحوم عصام عنان.

· درعا:

كان قرار القيادة بعد خروجنا من الأردن تحت مظلة الجامعة العربية (الباهي الأدغم) إنشاء محطة إذاعة قريبة ليصل إرسالها إلى الأرض المحتلة.. واستقّر القرار على مدينة درعا – جنوب سوريا على الحدود الاردنية. كلف أيضا الأخ أبو صخر بإنشائها.. وكان من المقرر عند خروجها من الأردن أن نتجه فورا إلى درعا، ولكن الاجهزة لم تكن قد وصلت بعد، وتم شراء منزل هناك ليكون مقرا للإذاعة إلى أن تم إحضار الأجهزة، حيث تم شراء جهاز فليبس من هولندا عن طريق الأخ أبو جهاد ثم بعدها وصلت هدية أصدقائنا من الصين الشعبية، حيث دخلت الأجهزة إلى سوريا مع طاقمها الهندسي وبذلك استغرق العمل فيها عدة أشهر حيث انطلقت في بداية العام 1971م.

وفي تلك الفترة ذهبت إلى القاهرة لاستكمال دراستي الجامعية. حيث لم يبقى على التخرج إلا اجتياز مادة واحدة.

بعد أن اطمأن الأخ أبو صخر على انطلاقة الإذاعة في درعا سلم مهمة إدارتها للأخ أحمد عبد الرحمن الذي ثبّت الأخ يحيى العمري للعيش هناك بشكل دائم واستقطب عددا من الزملاء اليساريين من التنظيمات والأحزاب الصديقة مثل خالد العراقي القادم من الحزب الشيوعي العراقي ومحمد سليمان (أبو إبراهيم) وهاني الزعبي الفتحاويان، وراسم المدهون من الديمقراطية وعدد من العسكريين الفتحاويين امثال سامي سرحان ونمر اسماعيل بالإضافة إلى التوجيه السياسي مثل الأخ أبو نائل/ عبد الفتاح القلقيلي والمذيعين الأخ عطية شعث والأخ زعل أبو رقطي.

تم الاتفاق على أن يذهب عدد من المذيعين في القاهرة إلى الإذاعة في درعا بالتناوب فكان الأخ نبيل عمرو يذهب إلى هنالك وعند عودته يذهب عبد المجيد فرعوني أو الطيب أو خالد وهكذا.

وعندما كان الأخ أحمد عبد الرحمن يغادر إلى الشام أو إلى القاهرة يكلف أحدنا بتولي المسؤولية شفويا دون علم الآخرين ويكلف آخر بكتابة التعليق السياسي دون علم المعلقين.. ففي إحدى المرات كلفني بالمسؤولية ويبدو أنه كلف اثنين من الزملاء بكتابة التعليق.. فقد كلف خالد العراقي وايضا هاني الزعبي.. وعرضت المادة المكتوبة عليّ كمسؤول للإذاعة فأقررت ما كتبه خالد العراقي الشيوعي، ولكن هذا ليس له علاقة بالتدين وانا من قرأ التعليق يومها على الهواء.

كانت علاقتنا حميمة خاصة وأننا نسكن معا في مبنى الإذاعة نفسه.. وهو مبنى أرضي على شكل فيلا وأمامها قطعة أرض صغيرة كان الأخ يحيى العمري يهتم بزراعتها ما يفيدنا كالفجل والبصل والنعناع والزعتر والرشاد بالإضافة إلى الزهور الجميلة وكنا أيضا نأكل سويا.. حيث لنا تمويننا كسائر القوات والقواعد الفدائية ونحن نتولى الحراسة في الليل والإذاعة في النهار.

كما كان يعجني خط الأستاذ فؤاد في بداية الإذاعة في القاهرة فقد أعجبني أيضا في درعا خط الأخ سامي سرحان القادم من القواعد العسكرية في القوات والقادم أصلا من مكان دراسته في يوغوسلافيا.

كان هو والأخ نمر يجهزان نشرة الاخبار في الليل ويكتبها سامي بخط يده الجميل.. وفي الصباح أسحبها من تحت مخدته وهو نائم لاذاعتها في نشرة الصباح الباكر.

جو درعا كجو فلسطين وجو الأردن خاصة وأن أرضها الحمراء الزراعية تعطي رائحة الأرض المعطاءة في الشتاء.. أحببت درعا وأحببت كادرها رغم اختلاف تياراته السياسية ولكن ارتباطي الأكثر كان مع الأخ يحيى العمري الذي زاملني في الخلية الأولى للإذاعة في القاهرة والذي تعرفت عليه قبل ذلك عندما دخلت القاهرة للمرة الأولى، ودون معرفة سابقة كانت مساعدته لي مساعدة هامة حيث التقيته صدفة وأخبرته أنني قادم من عمان للدراسة في مصر ومعي عنوان لأذهب إليه فحمل معي حقيبة السفر الكبيرة وأنزلني في فندق في حي الأزهر، ريثما التقيت أصدقائي وسلمني لهم سالما معافاً.. وتشاء الصدف بل مشيئة الله أن التحق بجامعة الأزهر بعد عدة سنوات بمساعدة صديقي الأخ صديق السيد وألتقي يحيى مرة أخرى في مدينة البعوث الإسلامية التابعة لجامعة الأزهر التي حدثتكم عنها في السابق.

مكثت في درعا فترة لا بأس بها وحيث الأخ أحمد عبد الرحمن يريد كادرا مستقرا ومقيما وليس زائرا كما كنا نفعل اتجه للعمل على تزويجنا من هناك حتى نستقر ولكنني تحججت باستكمال دراستي في القاهرة.. واختار يحيى زوجة له واستقر هناك في درعا فكان الثابت الوحيد من المذيعين في درعا وكان بيته بيت الكرم لنا جميعا نحن الزوار واعتقد أنه هو أو أحمد عبد الرحمن القادر على الكتابة عن تجربة الإذاعة في درعا.

كان جيران الإذاعة حولنا يغمروننا بمحبتهم وعطفهم وكرمهم ونتبادل الزيارات باستمرار وكان بعضهم من العاملين في أجهزة الاستخبارات السورية، إلى أن جاء يوم في العام 1973م، حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات دائم الإعلان عن ضرورة ازالة آثار العدوان وأنه مصمم على ذلك وكل مرة كان يحتج بوجود الضباب! حتى أصبح نكتة على لسان المصريين قبل غيرهم.

وفي تلك الأثناء عقد مؤتمر ثلاثي ضم السادات والملك حسين وحافظ الأسد في سوريا.. يومها هاجمنا المؤتمر من خلال إذاعتنا في درعا أي من قلب سوريا كما فعلنا في القاهرة عندما هاجمنا مشروع روجرز وكان هناك انشودة تتحدث عن ذلك تقول (لا المؤتمرات الدولية ولا الاجتماعات الرباعية والثلاثية تحني ثورتنا الشعبية). الخ... ونشيد (مؤامرة.. لتسقط المؤامرة).. يومها كان يجب أن أغادر القاهرة وفعلا غادرت في الوقت الذي اقتحمت فيه مخابرات الأسد مقر الإذاعة واعتقلت جميع الكادر ونجوت من ذلك بأعجوبة وبإرادة الله سبحانه، حطموا الإذاعة وأجهزتها واستولوا على كل شيء فيها بما فيه ملابسنا وطعامنا! حيث كانت والدتي قد أحضرت معها من عمان عند زيارتها مع أهلي لنا في درعا في تلك الفترة بعض الخزين الذي يعتاد عليه الفلسطينيون مثل الجبنة النابلسية واللبنة الجامدة والزعتر وغيرها! وبعد تدخلات كثيرة تم إطلاق سراح كادر الإذاعة ولم نعد لها حتى الآن.

في تلك الفترة بدت معالم تشكيل الإعلام الفلسطيني الموحد في بيروت حيث استلم المرحوم حنا مقبل رئاسة تحرير فلسطين الثورة ونائبه غانم زريقات ثم تسلمها أحمد عبد الرحمن ومعظم كادر الإذاعة في درعا.. وكان زياد عبد الفتاح ما زال على رأس عمله في وكالة "وفا" يساعده المرحوم سليمان أبو جاموس وسامي سرحان ورأس الإعلام الموحد الشهيد ماجد أبو شرار.

عندما تخرجت وحصلت على الشهادة الجامعية الأولى من كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر والتي تسمى الشهادة العالمية في العام 1971م، أصر الأخ أبو صخر على أن احصل على مخصص شهري كزملائي في الإذاعة، حيث كنت متبرعا رافضا الحصول على راتب شهري منذ التحاقي في الإذاعة في عام 1968م، حيث كنت أعتمد على ما يرسله لي والدي -رحمه الله- أثناء دراستي.

وكنت أنوي الاستقرار في درعا ومن ثم الزواج وكان شرطي في رفيقة الدرب أن تكون فلسطينية ومحجبة، فالفلسطينية تقدر الظرف الذي نعيشه فهي ابنة القضية، والمحجبة بسبب تربيتي الدينية وإيماني بأن المحجبة ستساعد في إنشاء جيل أخلاقي متدين، حيث رسولنا الكريم _ صلى الله عليه وسلم_ قدوتنا الذي قال فيه سبحانه وتعالى " وإنك لعلى خلق عظيم".

لكن إغلاق الإذاعة في درعا والتحاقي بالدراسات العليا في جامعة القاهرة التي تخرجت منها في العام 1973م ثم حرب اكتوبر عام 1973 وتكليفي بافتتاح إذاعة لنا في صنعاء، وفي تلك الفترة أجلت مشروعي الذي عاودت البحث من أجل اتمامه عندما تركت صنعاء نهاية العام 1974 والتحقت بمكتب التعبئة والتنظيم في دمشق مساعدا للمرحوم القائد أبو السعيد (خالد الحسن) في إصدار التعميم الحركي، ولكن ما لبث النظام السوري أن تدخل ضدنا في لبنان في العام 1976م فقررت العودة إلى بيروت برغم كل المخاطر في تلك الفترة، والالتحاق بالإذاعة هناك من جديد وكانت مغامرة كتب عنها يومها الصديق والزميل يحيى رباح، حيث التحقت فورا بالإذاعة وساعدت في كشف كذب نظام حافظ الأسد الذي كان يدّعي أنه وقواته في لبنان من اجل الدفاع عن الثورة الفلسطينية في حين كان يقصف قواتنا ويحاصر تل الزعتر ويساعد الانعزاليين.

وبذلك أُغلقت سوريا امامي ولم أعد أستطيع العودة اليها للاستقرار هناك كما كنت اخطط أنا وأخي أبو جميل الذي بقي فيها وتزوج هناك واعتقل خلال فترة الانشقاق لكنه استطاع الإفلات فيما بعد.

لذلك لم يعد أمامي إلا البقاء في بيروت وهذا ما أسعد القيادة وأسعد أخي نبيل عمرو الذي طلب أن أكون نائبا لمدير الإذاعة هناك.

ومن ذكريات الإذاعة في درعا أنه في يوم شديد المطر وصلت من القاهرة إلى دمشق في طريقي إلى درعا حيث الإذاعة.. أوصلتني السيارة إلى مكان لم تستطع الاستمرار فيه بسبب غزارة المطر وخوفا من أن (تغرز) السيارة في الطين. فحملت حقيبتي الثقيلة على رأسي أولا لتحميني من المطر وثانيا لأخوض بسهولة الأرض الموحلة التي تقودني إلى الإذاعة، ما زاد في غوصي في الوحل وامتلاء حذائي بكمية ثقيلة من الطين الأحمر فزادت من صعوبة تحركي إلى أن وصلت الإذاعة بسلام وثيابي تعصر ماءً.

استقبلني الزملاء استقبالا حارا وأخذوا عني حملي الثقيل وخلعت الحذاء المليء بالطين وفوجئت بخبراء صينيين داخل الإذاعة حيّوني بحرارة ودخلت الاستوديو فورا، وعلى الهواء مباشرة أذيع بعض المنطلقات الثورية والتعليقات السياسية قبل أن أشم نفسي كما يقال. وهذا ما أبهر الرفاق الصينيين الذي تعجبوا من هذا الفلسطيني القادم من مطار القاهرة إلى مطار دمشق إلى درعا ويباشر العمل دون أن يستريح، لذلك قرروا الاحتفال بي بدعوتي على الغذاء في اليوم التالي. وهولاء هم المهندسون الذين جاءوا بجهاز الإرسال لإذاعتنا هدية من أصدقائنا حكومة وشعب الصين الشعبية لتركيبه وتشغيله قبل أن يغادرونا.

كانت حواراتنا لا تخلو من الفكاهة فنطقهم للكلمات العربية التي يتعلمونها منا كانت تثير ضحكاتنا فمثلا عندما يريدون أن ينطقوا اسم "خالد" يضيفون اليه أحرفا أخرى لا يستطيعون منعها! فيصبح اسمي عند نطقه بلسانهم "خلنتة" أو "خالنتة"، قبل حفل الغداء حذرني أخي الروحي وزميلي يحيى العمري من الشوربة، نعم الشوربة الصينية حيث أن إكرام الضيف بالنسبة لهم هو تقديم طبق الحساء من " الدرعن" الدود الصغير الأبيض الذي يربونه في الطحين.. أي الطحين المدرعن، وكانت هناك ملاحظة لدى الأخوة في الإذاعة أن الكلاب المنتشرة حولنا في تلك المنطقة بدأت تقل وتختفي رغم كثرتها.. والسبب أن لحم الكلاب طبق شهي بالنسبة لهم ويباع في أسواقهم كباقي أنواع اللحوم...!

ومن النوادر الجميلة التي أعتز بها في درعا أننا كنا نتناوب الحراسة حول الإذاعة في الليل. مرة أوقفت سيارة كانت تمر خلف الإذاعة للتأكد من هويتها وركابها وكم كانت المفاجأة جميلة أنها سيارة فدائية تحمل أفراد من قواتنا كدورية ليلية، أسعدهم أن يكون الذي أوقفهم إذاعي يقوم بعملهم ما عزز محبة وثقة القوات بكادر الإذاعة الذي لم يكن يخلو من زياراتهم وولائمهم لنا في قواعدهم.

ذات مرة كلف الأخ أحمد عبد الرحمن واحدا من الأخوة بإدارة الإذاعة أثناء غيابه ويبدو أنه كلف آخر دون علمه فحصلت مشادة في غيابه اضطرت الدائرة العسكرية التي كان يرأسها المرحوم أبو هشام المزيّن المعروف بفتى الثورة والذي شارك في انطلاقة الإذاعة في العام 1968 بقصائده الثورية، كما ذكرت سابقا اضطر أن يضع مسؤولا من طرفه للإذاعة لحين حل الإشكال وعودة الأخ أحمد وكان ذلك المسؤول الشاعر المقاتل والذي عمل معنا في فترة لاحقة في الإذاعة في القاهرة وقدم بعض الأناشيد مثل( جفرا ويا هالربع شعب وفدائية) المكنى أبا زيد وهو الدكتور فيما بعد عبد البديع عراق بالرغم من اعتراض الكادر في ذلك الوقت واعتبروه ذلك تدخلا عسكريا..!