قبل أيام شاهدت تقريرًا تلفزيونيًا يتحدث عن أطفال الصين بعمر عشر سنوات أو أقل قليلاً، وكيف يتم إعدادهم للمستقبل كخبراء في الذكاء الاصطناعي وتطوير برمجيات الروبوت، وفي اليوم نفسه شاهدت تقريرًا عن أطفال فلسطين الذين أنهوا حفظ القرآن الكريم. ولكي لا يساء فهمي فأنا مع بل أدعم حفظ القرآن الكريم وأصر عليه وعلى حفظ كل الكتب السماوية، وحفظ التاريخ والجغرافيا، فكل أشكال المعرفة هو أمر في غاية الأهمية، فما بالك بالقرآن الكريم.

كما أود أن أوضح منذ البداية أن المقال ليس محاولة للمقارنة بين أطفال الصين وفلسطين، لأن الواقع هناك وهنا لا يمكن أن يحاكم بنفس المعايير، فالصين ثاني اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية، بلد عملاق سابق الزمن في العقدين الأخيرين ليضع نفسه في قمة الكبار، بالمقابل فلسطين بلد صغير جدًا تحت الاحتلال لا تمتلك أية مقدرات، أو أن مقدراتها منهوبة من الاحتلال الإسرائيلي.

في التسعينيات من القرن الماضي أطلقت مجموعة شبابية فلسطينية فكرة رائدة، بل وطليعية، هي "منتدى العلماء الصغار"، وكان إبني واحدًا من الأطفال المحظوظين الذين شاركوا مع أول مجموعة، أو دفعة الأطفال الأولى في هذا المنتدى، وكان محظوظًا أنه وبعد ثلاث سنوات كان شريكًا مع الأطفال الآخرين ومعلميهم في المنتدى في صناعة أول روبوت فلسطيني.

وفي تلك السنوات التي استمرت حتى بدأت الانتفاضة الثانية، طور أطفال المنتدى أفكارًا علمية وفنية ملفتة. ولا أعرف ماذا حل في هذا المنتدى، ولا كيف طور الأطفال مستقبلهم؟ وقبل أيام قرأت في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"  تقريرًا عن "النظارة الذكية" التي طورتها طفلتان في الصف التاسع من غزة بإشراف مؤسسة "نيزك"، التي تنشط في الضفة وغزة، وحسب التقرير فإن وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" قد أعطت النظارة الفلسطينية الذكية براءة اختراع، وهو في الحقيقة إنجاز كبير لأطفال فلسطين. (يمكن الاطلاع على التفاصيل، وهي في غاية الأهمية، على موقع وكالة "وفا" بتاريخ 3 أيلول الجاري).

المقصود هنا أن يكون إلى جانب مدارس لحفظ القرآن منتديات ومؤسسات علمية تقوم بتحضير وإعداد جيل يمكن أن يبني مستقبلنا بشكل أفضل، فالمجتمع بحاجة للمبادرتين، إلى من يحفظ القرآن والإنجيل والتوراة، ومن يدخلنا إلى المجتمع المعرفي وعالم التكنولوجيا المتطورة، وبدون خلق هذه المعادلة سنبقى جزءا من العالم الثالث وربما الرابع أو حتى بدون أي تصنيف.

والسؤال: مسؤولية مَنْ أن يبادر لتأسيس منتديات لخلق جيل مختلف، جيل يؤمن بعقله وأهمية العلم والتكنولوجيا، وأهمية أن نلحق بباقي الأمم المتطورة؟

الجواب ليس صعبًا ولا غير مفهوم أو غير مدرك، فالحكومة هي المسؤولة وعلى عاتقها تقع مسؤليتان الأولى: تغيير مناهج التعليم وإعداد معلمين لتدخل معهم التكنولوجيا كعنصر رئيس في هذه المناهج وبشكل مكثف وليس مجرد كتاب عابر، والمهم في هذا الشأن أن نخلق منهجًا علميًا وعقلاً مبتكرًا، أما المسؤولية الثانية: دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تبادر لمثل هذه الأفكار، على شاكلة منتدى العلماء الصغار ونيزك وربما كان هناك آخرون، والتعاون معها لتصل إلى أكبر عدد من الأطفال وتدخلهم في عالم المعرفة العلمية والتكنولوجية، وأن تكون مكملة لما يجري من تغيير في المناهج.

هناك حاجة إلى تغيير أنماط حياة أطفالنا وشبابنا، كمدخل لتغيير المجمتع ككل. وربما علينا أن ندرك أنه لا خلاص حقيقيًا لنا إلا بالتخلص من تخلفنا عن باقي الأمم، فهذا الخلاص هو الذي سيقودنا للخلاص من الاحتلال وهما يشكلان المدخل لمستقبل مختلف، وهناك بلا شك علاقة جدلية بين الأمرين. خلق مجمتع متطور، مجتمع معرفي بالتأكيد سيقود إلى إنهاء الاحتلال، وخلاصنا من الاحتلال يسهم بلا شك في خلق  فرص للوصول إلى هذا المجتمع، ولكن علينا أن نكون حذرين هنا أن إنهاء الاحتلال ليس بالضرورة أن يأخذنا نحو مجتمع متطور، لذلك فإن العمل على خلق جيل معرفي يؤمن بعقله قادر على البحث والابتكار سيقود للأمرين معا إنهاء الاحتلال وإنهاء حالة التخلف.

كيف نبدأ في عملية التغيير، وما هي الخطوة الأولى نحو هذا الهدف؟

أيضًا الجواب ليس وصفة سحرية، ليس اختراعًا صعبًا، إنه أمام أعيننا وفي مجال إدراكنا، فقد قامت الأمم والدول الأخرى، التي عبرت عتبة التخلف إلى التطور بنجاح، بالبدايات ذاتها، نبدأ بالقرار أن نمتلك القرار والإرادة وأن نعرف إلى أين سنصل، ونوفر الإمكانيات. المهم هنا هو القرار ووضوح الهدف، وللوصول إلى لحظة اتخاذ القرار لا بد من أن نتخلص من الارتجال والفوضى في اتخاذ القرارات، وأن نجلس نفكر بهدوء نضع خطة بسيطة ونتمسك ونلتزم بتنفيذها مهما كانت الظروف.

إن استخدام الاحتلال كمعيق هو أمر غير مقبول، فالاحتلال يخنق حياتنا وأنفاسنا، ولكن القرار المشار إليه في الفقرة السابقة هو التحدي الحقيقي لهذا الاحتلال ويقصر الطريق للخلاص منه.

أعتقد أن رئيس حكومتنا لديه كل الإدراك لأهمية هذه الخطوات، والبدء بها اليوم قبل الغد، وقد نكون بحاجة إلى مجموعة خبراء تطلع على تجارب الآخرين تفكر وتخطط وتطرح أفكارها وخططها وتحدد الإمكانيات وكيفية الحصول عليها، أما أن نواصل لعن الظلام والاحتلال والانقسام، فهذا هو الأمر غير المقبول.

والسؤال الأخير: ألا تشكل الأخبار التي تتحدث عن تقدم الآخرين مصدر تحدٍ لنا؟