هدى حبايب

لم يصدق أهالي مدينة طولكرم وتحديدا الحي الغربي منها، أن الشاب محمود الخلوق البسيط والطيب، الذي يحمل في جعبته آمال وأحلام مستقبلية بعد نجاحه في الثانوية العامة، ستنتهي حياته بهذه البساطة وبرصاص قوات الاحتلال التي انطلقت نحو جسده على بعد مسافة صفر.

محمود الشهيد لم يكن مصدر تهديد للجنود المدججين بالأسلحة، ولم يشكل خطرا على حياتهم، لكنهم مع سبق الإصرار والترصد قاموا باغتياله، لأن أي شيء متحرك حولهم هو عدو يجب إطلاق النار عليه.

فجر اليوم الجمعة وتحديدا الساعة الرابعة، كان الشهيد محمود أبو سعن ابن الثامنة عشرة، على موعد مع الشهادة، عندما كان يقف جانب شارع ميدان الشهيد جورج حبش غرب مدينة طولكرم، والمعروف بدوار العليمي، يراقب مرور دوريات الاحتلال لحظة خروجها من مخيم طولكرم، بعد أكثر من ساعتين من الاقتحام للمخيم الذي عاثت فيه خرابا وتدميرا كما عادتها، من إطلاق للأعيرة النارية بكثافة وقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع باتجاه المواطنين.

في دخيلة نفسه، كان يعرف كما أي شاب في عمره الصغير أن هذا الاحتلال حاقد وقاتل، ويغمر نفوس جنوده القتل، تحرك وحاول إخفاء نفسه عنهم، لكن برمشة عين تم كل شيء بسرعة مذهلة، أطلق جندي حاقد رصاصة عليه فأصابه فوقع أرضا، حاول استنهاض جسده، إلا ان الجندي خرج بسرعة من السيارة العسكرية، وصوب سلاحه على رأس محمود فأرداه شهيدا على الفور، لتكمل قوات الاحتلال طريقها إلى بوابة "سنعوز" غرب المدينة، للاحتفال بتنفيذ جريمتها، بينما كان جسد محمود المطرز بالرصاص ملقى على الأرض غارقا بالدماء.

وحالما انتشر الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي، بأن هناك شاب ملقى على الأرض مضرجا بالدماء في منطقة دوار "العليمي"، هرع المواطنون إلى المكان وشاهدوا كمية الدماء التي تسيل منه وجزء من الدماغ تطاير حول جثمانه، نقلوه لمستشفى الشهيد ثابت ثابت الحكومي، الذي أعلن عن استشهاده متأثرا بجراحه الخطيرة التي أدت إلى تهتك كامل في الدماغ.

حُمل الشهيد محمود على الأكتاف، ولف جسده بالعلم الفلسطيني، وزف بجنازة كانت أشبه بحفل زفاف، تودعه المدينة بمخيماتها وضواحيها، صغيرها وكبيرها، رجالها ونساؤها، يهتفون باسمه ويعاهدونه على الفداء، وفي قرارة أنفسهم فقدوا أطيب شباب طولكرم.

أما والداه اللذان انهك قواهما استشهاد نجلهما، وفطر قلبيهما وسط دموع لم تفارق عيون والدته، فيدعوان له بالرحمة والجنة ولهما بالشفاعة.

جده لأمه محمود الحصري، وهو إمام مسجد الروضة في المدينة، بدا عليه التأثر الشديد لاستشهاد حفيده المحب له، الذي كان يرى فيه شابا تقيا طموحا، يعرف بحسن خلقه ودينه وأدبه، يكرر في كل لحظة وهو يتقبل واجب العزاء إلى جانب والد الشهيد وأقربائه وفعاليات المحافظة، وصية محمود "لا تبكوا علي، رشوا الورود علي"، كأنه يخفف من وطأة الحزن على فراقه.

ويقول: "هذه كرامة من الله لمحمود، هذا الاحتلال دأبه القتل في كل وقت وكل مكان في فلسطين، ظانا انه سيضعف هذا الشعب ويجبره على الاستسلام لكن خابوا وخسئوا، وشعبنا سيبقى صامدا مقاوما حتى تحقيق النصر والتحرير".

والده حسام أبو سعن، احتسبه عند الله، وهو يقول إن محمود كان شابا طموحا يعمل بجد في كل مكان يتواجد فيه، سواء كان معه على بسطة الخضار أو اي عمل يتسنى له تنفيذه، مضيفا أنه تحدث إليه قبل استشهاده، يستعجله في العودة للمنزل، ليخبره أنه سينام الليلة عند دار جده، لكنهم استيقظوا على خبر استشهاده.

وقبل أسبوعين، احتفل أبو سعن بنجاحه في الثانوية العامة "التوجيهي"، وحصوله على معدل 70%، كان يؤجل التسجيل في الجامعة وهو يقول لم يحن الوقت بعد.