شهد تاريخ الصراعات الأهلية والقومية والدولية مساومات متعددة، نجم عنها تنازلات متبادلة، وبعضها تنازلات من جانب الطرف المهزوم لحساب المنتصر. بيد أن كل المساومات قامت على ركيزة أساسية عنوانها تقليص حجم الخسائر إلى الحد الأدنى، حتى الفريق أو الدولة أو الائتلاف الإقليمي أو الدولي الذي لم يحالفه الحظ بالنصر، حرص كل منهم على المساومة مع الأعداء أو الخصوم على تقليص نسبة الأثمان التي سيدفعها لحين تجاوز أسباب الهزيمة، وإستعادة موازين القوى المناسبة لاسترداد الحقوق، التي فرضها المنتصر. 

في الحالة الفلسطينية، إضطرت قيادة منظمة التحرير منذ العام 1965 وحتى اليوم (2023) إلى خوض غمار العديد من المساومات الداخلية والعربية ومع دولة التطهير العرقي الإسرائيلية، أصابت في بعضها، وفشلت في بعضها الآخر. لكن كان هاجسها الدائم، تقليص حجم الخسائر، حماية الوجود الفلسطيني في الجغرافيا السياسية، وعلى مسرح السياسة الدولية، وتفادي عمليات التصفية المتعاقبة للقضية الوطنية، والمحافظة على الهوية والرواية الفلسطينية، والأهداف والثوابت الوطنية وفق محددات برامج اجماع المجالس الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وكسب الوقت لحين تغير شروط المعادلات السياسية بما يتناسب والأهداف الوطنية. 

في الآونة الأخيرة، وقعت القيادة الفلسطينية تحت ضغط أميركي غربي راسمالي بعد قرارها بالتوجه لمجلس الأمن الدولي لانتزاع قرار أممي يدين ويجرم الإنتهاكات الإسرائيلية (أحادية الجانب)، ويرفض من حيث المبدأ وجود الاستيطان الاستعماري في أرض الدولة الفلسطينية المحتلة، ويطالب الحكومة الإسرائيلية الفاشية بوقف سياسة التغول الاستيطاني والاقتحامات المتوالية للمدن والقرى والمخيمات، واستباحة الحقوق الفلسطينية، وكان من المقرر التصويت على مشروع القرار الذي تقدمت به دولة الإمارات العربية للمجلس باسم فلسطين في يوم الاثنين الموافق ٢٠ من فبراير الحالي، إلا أن القيادة الشرعية استجابت للضغوط الأميركية، وطالبت دولة الإمارات سحب المشروع قبل 24 ساعة من التصويت، بعد أن عرض بلينكن، وزير خارجية أميركا ثمنًا زهيدًا، ووعودًا لا تسمن ولا تغني من جوع للقيادة الفلسطينية، أهمها: وقف البناء الاستيطاني وتشريع البؤر الاستعمارية لبعض الشهور القليلة؛ ووقف الهدم والاقتحامات للمناطق (A و B)؛ ووقف عمليات التصعيد والعنف، وتعزيز مناخ التهدئة؛ ووعد بالتمني على إسرائيل للسماح لأمريكا بفتح القنصلية الأميركية في القدس؛ ووعد بترتيب زيارة لسيادة الرئيس أبو مازن لواشنطن واللقاء العام القادم مع الرئيس جو بايدن؛ وعقد قمة أمنية في العقبة تشارك فيها الإدارة الأميركية، وإسرائيل والسلطة الوطنية ومصر والأردن البلد المضيف لترسيم تلك التفاهمات. 

لكن حكومة غلاة الفاشية والدينية الصهيونية بزعامة نتنياهو، ردوا من اللحظة الأولى، وبعد سحب مشروع القرار بلسان رئيس الحكومة، أن البؤر التسع التي شرعتها الحكومة، وما قررته من بناء حوالي 10000 آلاف وحدة سكنية لا تندرج ضمن التفاهمات، ليس هذا فحسب، بل ان قوات الجيش الوحدات الخاصة الإسرائيلية الوحشية قامت صباح يوم الأربعاء الموافق ٢٢ فبراير وقبل أن ترى تلك التفاهمات النور باقتحام حارة الشيخ مسلم في البلدة القديمة في نابلس البطولة، وقتلت أحد عشر مواطنًا فلسطينيًا جلهم من الأبرياء بينهم طفل ورجلين تجاوزا السبعين من العمر، وإصابة ما يزيد على المئة فلسطيني بالرصاص الحي، فضلاً عن إصابة المئات بالاختناق من قنابل الغاز، وهو ما اكد للقاصي والداني بؤس التفاهمات الأميركية، وتواطؤ الإدارة الأميركية مع حكومة نتنياهو، وكان حصاد القيادة الفلسطينية صفر نتائج، مما أسقط في يدها، ووضعها في موقف صعب جدًا، زاد من الهوة بينها وبين الشارع الفلسطيني.

ما تقدم أماط اللثام مجددًا وللمرة المليون، إن إسرائيل وحليفتها أميركا لا يركن إليهم، ولا يمكن الرهان على تنفيذهم أي وعد، مع ذلك، وخيرًا أن قمة العقبة تأخر عقدها ليوم غدٍ الأحد، التي من المفترض ان تُرسمْ التفاهمات الوهمية، وهي فرصة أمام قيادة منظمة التحرير للاستفادة من اللحظة بعد كشف إسرائيل فهمها للتفاهمات، وفي اعقاب جريمتها الوحشية في نابلس كي تتنصل منها، لأن لديها أوراق تثبت عدم جدارة ومصداقية الراعي الأميركي للمرة المليون أيضًا، والأهم أن صيغة التفاهمات من حيث المبدأ كانت على حساب المصالح والحقوق الوطنية، ولا تساوي شيئاً، وفيها إقرار بشكل غير مباشر ب"شرعية الاستيطان الاستعماري": لأن القبول بمبدأ التأجيل لمدة 3 أو 6 شهور، هو عمليًا إقرار بالاستيطان على الأرض الفلسطينية، أضف إلى أن مطلق تفاهمات مع أميركا أو إسرائيل، يفترض أن ترتكز على العديد من الثوابت، أولاً إقرار كل منهما بالشعب العربي الفلسطيني، ورفض الصيغة المستخدمة للتعريف بهم ب"الفلسطينيين"، يجب استخدام بالنص "الشعب العربي الفلسطيني"، وثانيًا الإقرار المبدئي بالحقوق السياسية والقانونية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية، التي زادت عن الآلاف؛ ثالثًا رفض وصم المقاومة الشعبية الفلسطينية ب "الإرهاب" تحت أي اعتبار بما في ذلك العمليات الفدائية المسلحة؛ رابعًا إسقاط صفة الإرهاب عن منظمة التحرير، ورفعها من قوائم الإرهاب الأميركية؛ خامسًا فتح ممثلية دولة فلسطين في واشنطن، والقنصلية الأميركية في القدس؛ سادسًا رفض عقد أي قمة تحت الاعتبار الأمني. لأن أميركا ومعها إسرائيل المارقة والخارجة على القانون تريد تحويل القضية السياسية والقانونية الفلسطينية إلى قضية امنية، ليس هذا فحسب، بل تحويل السلطة الوطنية لأداة بوليسية لخدمة أهدافهم الاستعمارية. 

إذا هناك محاذير كبيرة من المشاركة في قمة العقبة التي اقترحتها الإدارة الأميركية، لا يجوز تحت أية اعتبارات المشاركة بها، لأنها تشكل خطرًا على القيادة والشعب والقضية والمشروع والأهداف الوطنية.