بين الشّد والتحريض السافر والمعلن من الغرب بقيادة أميركا على روسيا الاتحادية، والإصرار على تضليل الرأي العام العالمي، وإقناعه بأن القيادة الروسية حددت ساعة الصفر لإعلان الحرب واقتحام الجارة أوكرانيا المسالمة، ودق الطبول بوتيرة متسارعة، قام الزعيم الروسي باتخاذ خطوات دراماتيكية تجاه الجارة الأوكرانية، وخلط الأوراق في الإقليم والمعادلات مع الغرب ودون اجتياح للجارة أو إطلاق قذيفة مدفعية. وكانت قيادة الكرملين أعلنت ألف مرة رفضها المبدئي لخيار الحرب، وعدم وضع البارود على أجندتها، ولا تفكر بها، وليست بواردها إلا إذا فرضت عليها، عندئذ لكل حادث حديث. إلا أن الغرب الأنجلوساكسوني ومعه الفرانكوفوني واصلوا حملتهم الكاذبة لإغراق روسيا في دوامة الحرب، وبهدف إضعاف بلاد القياصرة، وإعادتها لزمن ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وحرمانها من نصيبها في كعكة العالم كقطب مركزي في السياسة الدولية، ليس هذا فحسب، وإبقائها في دائرة المحوطة للغرب عمومًا وأميركا المثخنة بالجراح خصوصًا.

بيد أن القيادة الروسية في ظل التطورات الجيوسياسية العالمية، وإدراكًا منها لمخططات الغرب المستهدفة بلادها، وبالتركيز على مصالحها القومية، وتعزيزًا لنفوذها الدولي مع تراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية، وتكريسا لحصتها في إعادة تقاسم النفوذ الجديد لكعكة كوكب الأرض، ووفق خطة روسية ثابتة وواضحة المعالم بعدما استعادت أولا عافيتها، وخروجها من حالة التعثر الغورباتشوفية واليلتسينية، وترميم موانع القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، لجأت ثانيًا للتمدد التدريجي في أراضيها التاريخية، التي سلختها القيادة البلشفية بقيادة لينين/ ستالين من أراضيها الروسية لأراضي جمهورياتها السوفييتية، وكانت البداية في انتزاع القرم عام 2014، ومهدت في ذات الوقت التربة الملائمة لتطويق أوكرانيا تدريجيًا من خلال دعم إقليمي دونيتسك ولوغانسك، تحسبًا من طيش القيادات الأوكرانية الناكرة للجميل الروسي السوفييتي التاريخي.    

في ظل هذا المناخ كثيف الضباب والمخيم على الجبهة الروسية الأوكرانية خصوصًا والعالم عمومًا، وردًا على حملات الغرب وحلفائه في شرق أوروبا، ألقى القيصر الروسي أمس الأول الإثنين، كلمة بمضامينها التاريخية والاقتصادية والسياسية والأمنية والدينية والثقافية، تعرض فيها لكيفية نشوء وتطور أوكرانيا المعاصرة، وتحدث عن الروابط المشتركة على أكثر من مستوى وصعيد، خاصة في المجال الجيوسياسي الاستراتيجي بين البلدين تاريخيًا وحاضرًا ومستقبلاً، وأوضح أن العلاقة بينهما لا تنحصر بالجوار، فهو جوار معقد ومتشابك في العديد من الروابط العميقة بين الشعبين. كما تحدث عن فساد وإفلاس النخب الأوكرانية، التي تجاهلت حجم المساعدات الروسية الهائل، والذي قدره بـ 150 مليار دولار أميركي ما بين عامي 1990 و2010 فقط، وانحازت للغرب عمومًا وأميركا خصوصًا، واعتقدت أنها بدعم الغرب تستطيع أن تتمرد على الجار والتاريخ والثقافة والقوة العسكرية الروسية، ولي ذراع روسيا الاتحادية بالانضمام لحلف الناتو.

وللأسف يبدو أن القيادات حديثة العهد تفترض أن أميركا، هي أميركا تسعينيات القرن الماضي، التي تبوأت مركز القرار الأول في العالم، وتجاهلت التحولات الدراماتيكية الجارية في الخارطة الدولية، وتراجع المكانة الأميركية كثيرا، رغم وجود السلاح النووي والبيولوجي والهيدروجيني بيدها، والذي هو عبء عليها بقدر ما هو رصيد في حساب قوتها؛ لأنه سلاح ذو حدين. الأمر الذي جعل تلك القيادات المندفعة تنسى نفسها، لكن الرئيس بوتين في كلمته المطولة أكد على المؤكد الروسي في رفضه المطلق لانضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وعدم السماح لتمدده في دائرة نفوذ روسيا القومي، الذي يمس مركز القرار في الكرملين وروسيا عمومًا، وإصراره على إبعاد الصواريخ الأميركية عن حدود بلاده، وإعادة الاعتبار للاتفاقيات ذات الصلة بالأسلحة النووية والصاروخية المبرمة بين روسيا وأميركا. وختم رجل الـKGB)) السابق خطابه باعترافه بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وسبقها بعقد مجلس الأمن القومي الروسي على الهواء مباشرة أمام العالم، ووقع على وثائق الاعتراف فور انتهاء خطابه، وكان بجانبه رئيسًا الجمهوريتين الانفصاليتين، اللذان وقعا على وثيقة الاعتراف بدولتيهما، وأعطى الأوامر لوزارات الدفاع والخارجية كل في مجال اختصاصها لتعميق الروابط مع الدولتين مباشرة، وطرح ملف الاعتراف على مجلس الدوما، الذي اقره أمس الثلاثاء.

 

 لم يتردد بوتين في قراراته، ولم ينتظر الاستماع لرأي أميركا والغرب في خطوته النوعية الجديدة. ولم يكن قراره انفعاليًا، ولا ارتجاليًا، وإنما قرار مدروس بشكل جيد جداً، وقرأ بشكل متأن الأرباح والخسائر، كما أنه يعلم علم اليقين مآلات حصار الغرب لبلاده، الذي سيدفع الثمن مضاعفًا عن روسيا الاتحادية، ليس في حقل الغاز فقط، وإنما في الحقول الأخرى الاقتصادية والتجارية، كما أنه يعلم أن أميركا ليست جاهزة لأن تطلق قذيفة واحدة، لأن النتائج العكسية لها ستكون وبالاً على البلدين وأوروبا والعالم عموماً. ومع ذلك سياسة التمدد الروسي واستعادة المكانة التاريخية لها تتم بخطى حثيثة ليس في دول الجوار، إنما في أكثر من قارة، وما زال الباب مفتوحًا أمامها لاستعادة نفوذها السوفييتي القديم بأساليب وأشكال مختلفة ومن دون إطلاق طلقة واحدة. وقادم الأيام كفيل بإعطاء الجواب.

المصدر: الحياة الجديدة