خاص/مجلة القدس

فتح ميديا - لبنان

لم تكن صورته في الجريدة توحي بأي شيء غريب، رأيت وجهه ينبض بالحيوية والحياة، حتى ان شعره الأشيب يتدلى على جبينه وحاجبيه، مع لحية بيضاء نامية، وشاربين أغبرين، وفي خلفية الصورة غيوم بيضاء. بالاجمال كل شيء يوحي بأن الرجل يقوم برياضة التزلج في منطقة ثلجية، لم يطرق ببالي للوهلة الاولى انه ميت. عندما أتممت قراءة الخبر وعرفت بأنه عثر عليه جثة هامدة امام مبنى قيد الإنشاء قرب رام الله 2/10/2011 شعرت بالانقباض، أحسست بغصة علقت  في صدري مثل الإسمنت، فتوعّكت توّاً وراعني الخبر المفجع، كيف اصبح جسد فرانسوا مهروساً، وروحه زهقت بسهولة. ليس بمقدور الانسان ان يضع ضوابط لنزاوته وانفعالاته! احياناً تفلت منه هذه المشاعر كأنها قضاء مستعجل، فتضيق الدنيا في عينيه حتى تصير كحبة عدس وأصغر! الى هذا الحدّ كنت أشعر بأصفرار الدنيا امامي! فأخذت أفلفش في إحساسي، وأقلب أوراق العتمة لعل ضوءاً ما ينبجس كالدبوس، او لعل شُهُباً مذيلاً مضيئاً يلمع كالبرق في وجهي ثم يختفي بأقل من طرفة عين، لعل الستين من العمر حدّ فاصل بين "عمر سريع وموت طائش ضلّ الطريق" كما قال محمود درويش، فأصاب فرانسوا غاسبار ابو سالم في مقتل، وأرداه قتيلاً، جسده الطريّ ممدّد على ارض فلسطين؟ يا لهول الفاجعة؟! الارض التي أسس فيها مسرحه، واعتلى خشبته ليكون الحكواتي المتمرّد ضد الحياة الهازلة البائسة، هذه الارض التي تدور فيها اليوم مسرحية الحياة بكل تفاصيلها السوداوية، ففلسطين كانت ولا زالت هي بؤرة الصراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، فهل من المعقول ان يدوم الباطل والشرّ كل هذا الوقت على ارضها، وهي أرض الرسالات السماوية والأديان؟ ويسقط هذا الباشق على أرضها بسهم طائش. لعل هذا المشهد ابلغ من كل قول يأتي به منطوق اللغة في تعريف اليأس والإكتئاب، حين يبلغ السيل الزبى، وتصطدم إرادة التغيير مع واقع ظالم يستبد، فلا يعود الجسد الناحل يقوى على طاقة الاحتمال، ثم يأتي الموت لتغيير قواعد اللعبة، ويضع حداً لهذه المهزلة، ويا لها من لعبة مميتة! وتستدل الستارة على المشهد الاكبر من الفصل الاخير، من عمر الستين الذي كان يحسب له الكثير من أعلام فلسطين حساباً؟ فالهوية الحقيقية لأي فنان حقيقي تتركز عنده في روح الانتماء الى عالم يجد فيه هذا الانسان الفنان نفسه، فهكذا أحب فرانسوا ابو سالم ان يكون أبعد من مجرد انسان عادي، ولد من أبوين أجنبيين، ويحمل الجنسية الفرنسية، إنما انتسب الى خشبة المسرح الفلسطيني، وقوّى دعائمه بيديه الطّريتين –  لانه وجد فيه المسرح الحقيقي بمعنى ان يكون المسرح في فلسطين اولا يكون! فالقضية الفلسطينية بالنسبة اليه تلخص مشهدية الحياة الانسانية ببعديها الوطني والحضاري، وعلى خشبة هذا المسرح لعب فرانسوا أدواره المسرحية النابعة من روح التراجيديا الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني وكفاحه العنيد من اجل الحرية والاستقلال ودحر الاحتلال، فكتب مسرحية "ذاكرة النسيان" و"وقصة من فلسطين" ومسرحيته الاخيرة "ظلّ الشهيد"، وما حصوله قبلاً على جائزة فلسطين من الزعيم الراحل ياسر عرفات في العام 1998، غير دليل على هذا الانتماء، ولم يكتفِ بذلك بل اسس مسرح الحكواتي في المسرح الوطني برام الله، وظهرت اعماله الابداعية على خشبة المسرح اخراجاً وتمثيلاً من خلال اسهامه بالحركة الفنية والثقافية، وفهمه العميق ومعايشته للواقع الاجتماعي الفلسطيني بكل مندرجاته، وساعده على ذلك نشأته على الارض الفلسطينية في القدس الشرقية، ورؤيته لممارسات الاحتلال الظالمة، واطلاعه على الاعمال الابداعية الفكرية والادبية الفلسطينية، واستطاع أن يفكك العوائق والحواجز ما بين المسرح والجمهور، ولم يكن يميّز بينهما فكلاهما في قلب الآخر، حتى أصبح المسرح بكل تقاصيله وحدة واحدة متكاملة ما بين الممثل المسرحي والمشاهد ولم تغره فرنسا - بلده الاصلي - برقيّها وحضارتها وقوانينها ورفاهيتها، فآثر ان يكون في قلب الصراع المحتدم على ارض فلسطين، وما الاعمال المسرحية التي قدمها الا تجسيد حيّ لما تختزنه ذاكرته من عوامل الصراع، لأنه وجد ضالته في الشعب الفلسطيني الذي أحب ان ينتمي اليه، فالهوية التي احبها لها علاقة بالفكر والانتماء والعطاء، فترجم عشقه هذا في مسرحياته في فلسطين وبيروت وفي غير مكان، لذلك عندما نظرت في صورته وعرفت بعد ذلك ما حصل، أيقنت أن ما حصل هو خسارة كبيرة للمسرح الفلسطيني وللفنون لا يمكن تعويضها بسهولة.