خاص/ مجلة القدس

فتح ميديا - لبنان

اختار طه محمد علي ان يكون بسيطاً وهادئاً وعفوياً في قوله وفعله، صوته الهادر بعشق الأرض وحب صفورية تماهى مع روحه وجسمه الأهيف، تماهى مع تضاريس الأرض، صوته هذا الأجش المخشوشن كان يخرق المسامع وينزل الى القلب نزول الشهد من أقراص العسل، عركته الأيام برحى النكبة، فصال وجال، حتى انحنى عوده وتقوّس كسنديانة سامقة لا يغيب ظلها عن المفارق والشّعاب، لجأ الى لبنان في الـ 48 فقضّ اللجوء مضجعه وأرّقه، لم يجد بديلاً من العودة الى الارض التي عشقها، فعاد الى فلسطين الى الناصرة التي احبها كحبه لصفوريته، لم يقوَ على البقاء بعيداً عن رائحة ترابها، عن حرّها وبردها، لم يألف ان يكون طريد الاحتلال، فآثر العودة والبقاء، يصيبه ما يصيب أهلها، ويقاوم معهم جبروت المحتلين، يقول لهم: هنا ولدنا وهنا نموت. لم تتح له النكبة ان يكمل تعليمه، لكن ذكاءه الوقِّاد وعقله النيّر عوضا ما فاته، فنهل من عيون التراث شرقاً وغرباً، وواكب الحركات الادبية الطليعية، حتى اصبح له موطئ قدم في واقع الثقافة والادب، حتى طار صيته كأحد العناوين الثقافية وأعمدة الفكر الفلسطيني والعربي الأساسيين، داخل الوطن وخارجه، فبرغم ان نتاجه الشعري جاء متأخراً الى عالم الطباعة والنشر، ولكن قامته الشعرية كان لها حيثيتها وتأثيرها في قصيدة النثر، وصدر له عدد من الدواوين الشعرية منها: "القصيدة الرابعة وعشر قصائد اخرى" و "ضحك على ذقون القتلة" و "حريق في مقبرة الدير".

امتاز شعره بالنبرة الصادقة والواقعية، والعبارة المدبّجة بدون تكلف، والمتأمل في شعره يجد في طياته مشروعاً وطنياً  وانسانياً، فطه محمد علي وجد  في قصيدة النثر مجالاً للتعبير عن مكنوناته بعيداً عن القيود والضوابط التي تحدّ من اندفاعاته الوجدانية والفكرية في صياغة التعبير كما هو موجود في قصيدة (التفعيلة)، لذلك لجأ الى هذا النوع من الشعر لطرح القضايا التي كان يشعر بها: "لو رأيتني وأنا أحترق لما عرفتني يا سيدي/ أيّ حزن هذا/ الذي تذيبه النيران" فالحداثة والنزعة الوطنية ميزتان تحلى بهما الشعر الحديث خصوصاً مع اشتداد الهجمة الصهيونية، واحتلال فلسطين، وما رافق ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية على العالم العربي، وكانت صفورية بلدته الأم مكمن الألم الدائم " صفورية! ماذا تفعلين هنا/ في هذا الليل المجوسي/ العاكف على ذاته/ عكوف القلب على البغضاء". فتأثره بالشكل البنيوي الحديث لقصيدة النثر بائن بوضوح خصوصاً اذا قارنا تجربته بالتجربة "الماغوطية" في استخدام التعابير الحسية والمباشرة التي تركز على اظهار الفكرة اكثر مما تركز على اي شيء آخر، بعيدا عن الانتقاء والاستبدال، لأن ذلك يدخل في باب الابتذال والصنعة وليس العفوية "ما أعجز فعلاً عن وصفه/ في موتي/ هو فقط/ هذه الرعدة التلقائية/ المدمرة/ التي تجتاحنا.../ عندما نؤمن ونحن نموت/ اننا سننقطع عن احبائنا/ بعد قليل/ فلا تراهم/ ولا تستطيع حتى مجرّد التفكير بهم". أحسّ بحدسه النقي ان لحظة النهاية اقتربت، فعزّ عليه مجرّد التفكير بلحظة الفراق، ترك هذه المهمة لغيره ليفكّر بها، اما هو فكأنه اراد ان يقول بأنه باقٍ وموجود، وإن غاب جسده، إذ كيف يستطيع ان يتصور انه سيغيب عن حبيبته صفورية؟ وعكازه الذي توكأ عليه فوق تراب وحصى الناصرة، وفي قلبه حنين متأجج وألف طائر غَرِدٍ لصفورية .