لا يكاد يمضي يوم أو أسبوع إلا ونفجع بحادث قتل ضحيته امرأة في مقتبل العمر والجاني قريب تحول في لحظة إلى محقق وقاض وجلاد، لحظات بعيدة عن الصبر والحق والتحقق كانت كفيلة ليس بإنهاء حدث أو إغلاق قصة، لكنها لحظة لاندلاع نار اجتماعية وإنسانية على مختلف الجبهات، هكذا هو لسان حال القتل وتصفية الطرف الضعيف خارج القانون وخارج التشريعات وخارج النظم والمؤسسات التي وجدت لإدارة شؤون المجتمع وحماية الأفراد ذكوراً أو إناثاً، لتجنيب المجتمعات والأسر مخاطر أخذ القانون باليد، لأن التداعيات للانفلات القانوني مهما كانت دوافعه يشكل عودة لشريعة الغاب، شريعة القوي يأكل الضعيف حتى وإن كان الضعيف مظلوماً ومهماً كان القوي عالماً أو جاهلاً بحقوق الانسان.

عانى مجتمعنا الفلسطيني كغيره من المجتمعات وما زال من القتل على خلفية مقولة "حماية الشرف"، وللأسف باتت هذه الجملة مطاطة لدرجة أنها تعطي الحق لذوي الصلة بالقيام بممارسة حق الدفاع عن شرف العائلة اذا كان الفعل موجهاً ضد فتاة، فرأينا الأب والعم والخال والأخ والزوج والخطيب وغيرهم يشتركون في تنفيذ التحقيق والقتل ورفع راية شرف العائلة على جسد الضحية، وكم تساءلنا هل عاد شرف العائلة الى عنان السماء قبل أن ترتقي روح الضحية الى خالقها؟ أم أن هذه الأفعال كانت مجرد ردود فعل متسرعة وانفعالية تحتكم لقوة البعض على حساب ضعف الضحايا؟ وهل شرف العائلة يتقدس بالقتل والدماء؟ وهل التدنيس المعوم دون تحقق بتصفية الضحية واطلاق العنان للمخطئ للإمعان في المزيد من ايقاع الضحايا طالما ان الثمن يكون مبرراً وتكلفته فنجان قهوة؟

من يراجع عديد الحالات التي تمت تصفيتها من النساء لأسباب معلنة منها خلافات أسرية على الميراث وعلى الحقوق وغيرها لامجال للبحث فيها ضمن هذا المقال، تصدمه حقيقة  كبيرة، ألا وهي إمكانية تصنيف حالات القتل ضد النساء بأنها من نوع "قتل الغيلة" وفي حال ثبت هكذا تصنيف فإن الحد فيه واضح باعتبار الغيلة من أصناف الغدر وأساليب الخديعة التي ينفذها الجاني ضد الضحية، لأن الغيلة في اللغة تعرف على أنها " مِن غالَ الشيءَ أو اغتاله، أيْأخذَه غدرًا من حيث لا يعلم" أمّا قَتلُ الغيلة (أو الحِرابة كما يطلق عليه البعض) بتعريف الفقهاء فهو: "الخداع والقتل في موضعٍ لا يراه فيه أحد، أي القتل خِفيةً"، ولذلك فإن العديد من عمليات قتل النساء بنيت على أساس الخداع من قبل من أمنت لهم الضحية، وكان الثمن حياتها وتركها مطعونة او مخنوقة أو ملقاة في حفرة أو بئر قريب، ففي كل الظروف تم وضع نهاية لحياة إنسان في غفلة وفي لحظة كان يفترض الأمان مع هذا الشخص الذي كان ينبغي أن يكون سندًاً وحاميًاً لها.

ما يثير القلق في هذه الظاهرة ليس فقط ارتفاع معدلاتها وانتشارها في المجتمع سواء جغرافياً، أو تنوعها بين مختلف الفئات العمرية وفق تكشفه بيانات حول هذه القضايا من قبل الجهات المختصة، بلأيضا ما يستتبع هذه الحوادث والجرائم المرتكبة ضد النساء من تداعيات وتساؤلات وتدخلات ينبغي أن تستنهض مختلف الجهات ذات العلاقة، ولعل تداخل القضاء العشائري وقوانين العادات والتقاليد والعرف الاجتماعي مع دور القانون من المجالات المهمة، لأن القانون الرسمي وجد لحماية المجتمع والسلم والأمن والنسيج الاجتماعي من خلال سيادة القانون في السراء والضراء، والقانون الاجتماعي وجد كسياج اضافي للمجتمع لمنع انتشار واتساع دائرة العنف بين الأسر على خلفية أيّة خلافات مهما كانت أسبابها، فالقانون يحاسب المخطئ، حتى لا يستهين مستقبلاً، والعرف الاجتماعي لا يستقوي على القانون وإلا سادت الفوضى وباتت الغلبة للأقوى بما يملك من عناصر فوضى وتخريب، فحماية القانون وتجديده وتوضيحه والتمسك به تشكل صمام الأمان ضد الفوضى في كل الظروف.

ضعف القانون مهما كانت أسبابه سيكون بمثابة إعطاء ترخيص للانفلات وتحكيم شريعة الغاب، والخطر الأكبر الناجم عن ذلك سيكون اعطاء تصريح للمخطئ والمجرم على النجاة بفعلته دون عقاب، طالما أن الأمور ستنتهي بفنجان قهوة يخضع له الطرف الضعيف بحكم هراوة الطرف القوي المستبد على المجتمع وعلى القانون، وهذا للأسف يتجلى في عديد الحالات التي يتم فيها اللجوء للقضاء العشائري والعرف والتفاهمات العشائرية لتخليص القاتل من العقاب، تحت مفهوم إسقاط الحق العشائري ضمن ترتيبات معينة، لكنها تكون درءًا مؤقتًاً لتعقيدات ومخاطر اجتماعية، طالما أن المجرم قد أمن العاقبة والحساب.

تكرار الحوادث وتكرار وضع حلول مؤقتة لها خارج القانون وخارج تطبيق الأحكام والحدود يشكل انذارًاً وناقوس خطر على دور القانون والمؤسسات والمجتمع المدني، لأن ذلك تحديدًا يشكل تكريسًاللعنف الموجه ضد النساء دون تحقق وتدقيق الدوافع والأسباب التي يستخدمها المعتدي للقيام بجريمته، لأنه بذلك يأمن وجود آلية عشائرية كفيلة باخراجه من القضية بأقل ثمن ممكن، وبذلك تصبح هذه الآلية بمثابة شهادة وفاة على القانون وترخيص مفتوح للجاني لتنفيذ المزيد، أو لتشجيع آخرين للقيام بذات الافعال.

حوادث القتل التي تزايدت خلال الفترة الماضية لا سيما خلال جائحة كورونا (كوفيد -19) تعيد فتح موضوع الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي وعلى حساب المرأة بشكل واضح إلى طاولة البحث  بكل جدية من قبل كافة الجهات، فالتوعية والإعلام ركيزتان مهمتان لمواصلة تسليط الضوء وتوجيه الطاقات الاعلامية نحو قضايا جوهرية تهم أمننا ونسيجنا المجتمعي، وهذه رسالة مهمة لكافة وسائل الاعلام والجهات المشرفة عليه لاعلان عام كامل لقضايا المرأة توجه فيه كافة القدرات الإعلامية لهذه المواضيع وايصالها للجمهور عبر كافة وسائل التواصل، وإعادة تركيز الاهتمام للرسالة الاعلامية وتوجيه المتلقي للقضايا الحيوية والتكاتف في مواجهة المواد والمواضيع التي تزخر بها العديد من وسائل التواصل التي من شأنها خلق ثقافة تتعارض وقيم المجتمع الفلسطيني التي تستند الى الدور التاريخي للمرأة في كافة مجالات الحياة الفلسطينية، فشريكة النضال والكفاح في مواجهة صعوبات الحياة لا تكون في ليلة وضحاها ضحية مخنوقة في سيارة او مكان مهجور، وهي رسالة مهمة للمؤسسات النسوية والمعنية بقضايا المرأة والنوع الاجتماعي لإعادة مراجعة استراتيجياتها وبرامجها وتقييمها، ومساءلة النفس لماذا رغم كل البرامج الا أن هذه الظاهرة في تزايد؟ أين الخلل؟ هل هو في برامج العمل ومدى ملاءمتها للواقع الحقيقي؟ أم هي الأدوات والأشكال ومناطق التركيز التي تستهدفها تلك البرامج؟ أم هناك حاجة لشراكات من نوع آخر تتطلب تحليل الواقع والمستهدفين وساحات العمل وأشكل العمل وغيرها؟ وهل تركيز الانشطة التوعوية في المدن الرئيسية نموذج كاف للتصدي لهذه الظاهرة؟ هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن تطرحها الجهات المدنية والمجتمعية المعنية بقضايا المرأة بكل جرأة، والا فإن الفجوة ستتسع بين المؤسسات ودورها وتأثيرها على أرض الواقع.

جانب مهم ينبغي التوقف أمامه أيضاً لمواجهة ظاهرة تصفية النساء "غيلةً" ، ترتبط بدور القانون والتشريعات، ينبغي الإسراع إلى وضع قوانين رادعة وقادرة على التصدي لتطاول من يدعي أن لديه تصريحًا بالقتل في كل مكان وكل زمان، لأن التأخير يعني اعطاء المزيد من شهادات القتل، ويعني تراجعًا تدريجيًّا وضعفًا عمليًّا للقوانين لصالح التفاهمات العشائرية على حساب الضحية ولصالح تخفيف الثمن عن الجاني، فتعطيل الحدود الواضحة يعني المزيد من الغبن للضحية بعد وفاتها أيضًاً، واسقاط الحقوق العشائرية عن الجاني ينبغي ألا تؤثر على تنفيذ القانون والحق المدني والمجتمعي ليس لإعادة الحياة للضحية التي فارقت الحياة خنقًاً أو طعنًا، بل حتى لا يكون ثمن قتلها مجرد فنجان قهوة، وإلا عظم الله أجركم في القانون!.