رأس المال المالي كان وما زال لاعبًا أساسيًا في إنتاج وإعادة إنتاج تشكل النظام العالمي خلال القرون الثلاثة الأخيرة. وقد لا تظهر في المشهد القومي أو الإقليمي أو العالمي أدوار مباشرة لأباطرة المال، غير أنهم، هم المنتجون الحقيقيون لأكثر الخرائط الكونية، لأنهم يعتمدون على الممثلين الأبطال، والكومبارس والمخرجين الأكفاء، وهم بطبيعة الحال مهندسو كل السيناريوهات، التي تمتد تأثيراتها وقوتها على مساحة كبيرة من الكون عبر أدواتهم من القادة الممسكين بمركز الثقل الأساس في العالم. وبالتالي ما يعتقده الكثير من المفكرين والساسة بشأن دور العائلات النافذة والمهيمنة على رأس المال المالي في تشكل هوية وملامح العالم تحمل جانبًا مهمًا من الحقيقة، بغض النظر إن كانت هذه العائلات تتمثل في العائلات الخمس الأعظم نفوذًا، وهي: روتشيلد، روكفلر، مورغان، دوبون وبوش، أو كانت العائلات الـ13 الأغنى، ويضاف لما تقدم: روبرت، جينوفي، أستور، مكماهون، الكابيتية، أوبنهايمر، وتاتا، وكولينز، وبوندي، وفريمان وكينيدي ورينولدز أو شركاؤهم في حكومة الظل العالمية، ومركزها بيلدربيرغ، التي تتكون من خمسمئة شخصية عالمية تقرر سنويًا في اجتماعها الدوري السيناريوهات الافتراضية لاتجاهات تطور العالم.

وكان زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، نقل على لسان تلك العائلات في 4 تموز/ يوليو 2009 ما يلي بشأن: "أزمة 2008 لن تنتهي سنة 2010، ولا سنة 2012 ولا حتى 2015... هذه الأزمة لن تنتهي أبدًا قبل أن نحقق هدفنا. والهدف معروف: تشكيل الحكومة العالمية، عجبكم أم لم يعجبكم، فإن هذه الحكومة العالمية ستتشكل. سنعمل كل ما بوسعنا لكي تطلبوا منا أنتم بأنفسكم أن نشكلها، وذلك بعد أن يتطور الوضع من سيئ إلى أسوأ ... ستفهمون عما قريب أن الأزمة الحقيقية لم تبدأ بعد، وأن ما تشهدونه الآن ليس أزمة، وإنما الفوضى المنظمة، التي لن يشهد نهايتها إلا القليل القليل منكم. الجحيم الذي سنجعل الشعوب تعيش فيه ترى في الحكومة العالمية الخلاص الوحيد لها من الفوضى. ولذلك فإن الشلل في الاقتصاد لا يكفي نحن بحاجة إلى أكثر من ذلك، نحن بحاجة إلى الحروب، إلى الجوع وإلى تفشي الأمراض والأوبئة".

وتعميقًا لما اقتبسه عام 2009، يعود بعد عشرة أعوام في 20 أيلول/ سبتمبر 2019 ليقول بريجنسكي نفسه: " في عام 2020 سيجري الأميركيون مناقشة غير مسبوقة في تجماعاتهم الخاصة بالانتخابات التمهيدية، والمناضرات الرئاسية، لأول مرة منذ إنتخابات عام 1948، سيعبر الناخبون عن موقفهم من دور أميركا العالمي. ولأول مرة ستصبح موضوع قيادة أميركا للعالم أساسًا للحملة الإنتخابية الرئاسية". ولهذا الطرح علاقة كبيرة وجدلية بما ذكر عن ما ترسمه العائلات الأعظم نفوذًا حول مستقبل العالم، وبيد من ستكون مقاليد الأمور، هل ستكون بيد أميركا، أم بيد الحكومة العالمية مباشرة؟ وهي بالمناسبة موجودة، ولا تحتاج للتشكل من جديد، ويبدو أن هناك خللاً ما أما في الترجمة، أو أن التعبير خان بريجنسكي حول تشكل الحكومة العالمية.

 وتوافق مع ما ذكره مستشار الأمن القومي الأسبق، ويليام إنغدهل في كتابه "بذور التدمير"، الذي يتحدث عن دور تلك العائلات في صياغة العالم وفق مشيئتها، ومصالحها، التي تحددها خططها وأدواتها التنفيذية، ومما ذكره الكاتب، أن المجلس الأعلى الذي يحكم العالم (الحكومة العالمية) يسعى لتخفيض عدد سكان الأرض لأقل من مليار نسمة، تاركين موارد الأرض لاستخدامهم الحصري، ولهذا فانهم "على استعداد للذهاب إلى أي حد، بل والتخطيط لأساليب هندسية عالمية للسيطرة على السكان مثل الفايروسات واللقاحات والأغذية المعدلة وراثيًا"، وهناك العديد من الكتاب تعرضوا للعائلات الأساسية ودورها في صناعة التاريخ والمنظومة العالمية. وتجري عملية غسل دماغ وترهيب منظمة وهادفة للبشرية لإخضاعها لمشيئة أولئك الأباطرة، والتي تعتبر عمليات تمهيد من خلال خلق المناخ الملائم لانقضاضها على الدول والشعوب في قارات الكون.

لكني ومن التجربة التاريخية أيضًا، يمكن الجزم بأن البشرية ليست لعبة إلى هذا الحد بيد تلك العائلات، رغم أنها أحد العوامل الرئيسية الهامة في بناء المنظومة العالمية، ومع  ما تملكه من نفوذ عظيم في مناحي الحياة والإنتاج والعسكرة والإقتصاد والإعلام والثقافة، إلا أنها ليست العامل الوحيد. وأود إعادة تذكير العالم كله، ان الثورة البلشفية عام 1917 لم تكن وفق مخطط تلك العائلات، وأيضا غيرها من التطورات العالمية، رغم أنها كانت متسيدة المشهد في الغرب الرأسمالي. وأيضًا الآن ليست هي المقرر الوحيد في بناء المنظومة العالمية وحدها، فهناك الصين وروسيا واليابان والهند والأرجنتين والبرازيل وغيرها من الدول، بما في ذلك في وسط أوروبا الغربية، وبالتالي عملية الترهيب، التي تنفذها أدوات تلك العائلات ستصطدم بقطاعات واسعة من البشرية لرفض الإنصياع لمشيئتها، وكسر سيناريوهاتها وأحلامها. بيّد أن الضرورة تفرض الإقرار باستنتاج مؤكد مفاده، أن العالم ماض قدمًا نحو التشكل من جديد، وإعادة تقاسم النفوذ فيه وفق موازين القوى العالمية الجاري تشكلها، والتي قد تمتد لعقد من الزمن بحد أقصى.