نشر هنري كيسنجر، وهو غني عن التعريف، مقالاً في صحيفة (Wall Street Journal) قبل يومين تحت عنوان "بعد الكورونا سيتغير النظام الدولي إلى الأبد"، وهو أول مقال بهذا العمق والشمولية يتناول مرحلة ما بعد هذا الفايروس الذي يفتك بالبشرية جمعاء. وبالرغم من حذري الشديد من كل ما يقوله هذا الرجل بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين والعرب الذين دفعنا ثمنًا باهظًا لسياساته الشرق أوسطية في السبعينيات، فإن ما قاله في هذا المقال يستحق التوقف عنده باهتمام لأن فيه من المنطق والتشخيص واستشراف المستقبل بشكل ملفت للنظر.

وكما هو واضح من عنوان المقال، بالنسبة لكيسنجر فإن النظام الدولي الذي كان سائدًا حتى جاء هذا الوباء سيتغير العالم ونظامه الدولي السائد إلى الأبد، وهو يقصد الهياكل السياسية والاقتصادية المعمول بها حتى هذا الوباء. ودعا في هذا السياق إلى وجود إدارة أميركية قادرة على توحيد المجتمع الأميركي المنقسم على نفسه، إدارة بإمكانها خلق تعاون دولي شامل لإنقاذ الاقتصاد العالمي ووضع هيكل جديد لهذا الاقتصاد يكون فيه الجميع شركاء فعليين.

وبعد أن تنبأ بسنوات ستسود فيها الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل العالم دون استثناء، قال كيسنجر إن الاتجاه السائد في مكافحة الكورونا، الحلول الوطنية، أي أن كل بلد تحاول حماية نفسها وتواجه الوباء بِشكلٍ منفرد. وأضاف إن هذا الأسلوب لن ينجح حتى مع دولة غنية وكبيرة مثل الولايات المتحدة، فالعالم عليه أن يتحد ويتضامن بدل البحث عن الحلول الفردية.

وبخصوص الاقتصاد العالمي الذي سيخرج من أزمة الكورونا منهكا، فإن هذا الاقتصاد سيحتاج إلى سنوات طويلة ليتعافى، هذا إذا عمل الجميع جنبًا إلى جنب لانقاذه، وعلى أية حال فإن النظام الاقتصادي الحالي لن يستمر، وسيتغير كليًا وإلى الأبد، بمعنى أن ليس هناك رابح وخاسر بعد انتهاء الوباء، فالكل خاسر وأن المخرج ليس فرديًا بعد الآن.

في مقال سابق قلت إن عالم ما قبل الكورونا لن يكون كما بعده. ولكن التفصيل الذي يمكن أن نركز عليه نحن في الدول والمجتمعات النامية والأكثر فقرًا هو اليوم الثاني بعد انتهاء الكورونا، أن نتوقع مثلاً سيناريو الاضطرابات بسبب زيادة معدلات الفقر والبطالة بِشكلٍ كبير، فالوباء سيتوقف وينتهي، كأي وباء آخر ولكن السؤال كيف سيكون حالنا في إطار عالم مدمر اقتصاديًا. فالثمن قد يكون أكثر فداحة من الكورونا ذاتها. كما أن القطاع الخاص قد يكون تعاونه مفيدًا لفترة قصيرة، ولكن هو والمستوى العام سيكونان بمأزق إذا لم نحسن التصرف اليوم قبل غد، وأن نرتب أولوياتنا بِشكلٍ دقيق، وكيف نتصرف بمواردنا القليلة بل والشحيحة. والسؤال الآخر كيف سنكون جاهزين للمتغيرات التي تحدث عنها كيسنجر، وأنا اتفق معه بأن العالم سيتغير جذريًا وإلى الأبد. لعل رسالة الرئيس أبو مازن، التي أرسلها قبل أسبوع للأمين العام للأمم المتحدة، ودعا فيها إلى بناء شراكة دولية وتعاون في مواجهة الكورونا تتفق مع ما قاله كيسنجر عن عدم جدوى الحلول المنفردة. دعوة الرئيس هذه يمكن البناء عليها وتقديم تصور يستشرف المستقبل ومتغيراته المحتملة وتأسيس لشراكة دولية بدل الدخول في مواجهات تدمر ما ممكن أن يتبقى للبشرية من موارد.