في رحلة الصراع الطويل مع الحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري كانت حقيقة الأرض والإنسان والرواية متجذرة وعميقة في الوعي الوطني والقومي، وكلما اشتد أُوار الصراع، كلما صعدت الأرض إلى أعلى تجلياتها في التعبير عن الذات والهوية، وعادت في دفة البحث إلى الجذور التاريخية، وغاصت في منعطفات رحلة الآلاف من السنين لتعيد للحاضر أمجاد الكنعانيين واليبوسيين والنطوفيين والآراميين ولغتهم، وتشير لميراثهم الحضاري، وتسلط الضوء على مدينة القمر (أريحا) وإنسانها الأول، وباني أول أعمدة ومداميك الحضارة الإنسانية بعد آدم عليه السلام، وقبل وجود إبراهيم وسلالته عليهم السلام والديانات السماوية الثلاث بآلاف السنين.

لم تغب الأرض لحظة عن الذاكرة الفردية والجمعية للإنسان الفلسطيني خصوصا والعربي عمومًا. ومازالت تجوب وعي الأجيال الجديدة بقوة، وهو ما يخشاه الصهيوني أيّا كانت مدرسته وخلفيته السياسية، ويحرص في كل حوار مهما كان ضيقًا أو واسعًا، شخصيًا أو سياسيًا، أو فكريًا، أو ثقافيًا، في مؤتمر أم في اجتماع، في مقهى، أم في نادٍ، أم غرفة مغلقة على طي صفحة التاريخ. ويطالب بالقفز عن استحضاره، لأنه يعلم علم اليقين، أنه الخاسر، كونه لا يملك اليقين بالدفاع عن روايته المهزوزة والمربكة، لأنها مفبركة ومزورة ولا تمت بصلة للأرض الفلسطينية العربية. كما أن اللجوء والاستقواء بالعهد القديم (التوراة) يفقد روايته والمصداقية لأكثر من اعتبار، أولاً لأن الله جل جلاله لم يمنحهم الأرض الفلسطينية، بل منح سيدنا إبراهيم مكانا لدفن زوجته سارة ومدفنا له ولأبنائه، واشترى قطعة الأرض بملبغ زهيد؛ ثانيًا وسأذهب مع الرواية اليهودية الصهيونية إلى آخر المطاف، لأن هناك روايات يهودية تتناقض مع الرواية الصهيونية، عندما أُقيمت الممالك اليهودية في فلسطين (وليسامحني الباحثون كمال الصليب وفاضل الربيعي وعبد الحفيظ محارب وشلومو ساند وغيرهم ممن ينفون كليًا وجود الممالك في فلسطين)، كانت ممالك محدودة وعلى قطع صغيرة من الأرض الفلسطينية العربية، أضف إلى أن الممالك لم تكن موحدة، إنما كانت متصارعة، والحروب كانت دائمة بينها، ومملكة نابلس السامرية لم تكن يومًا مع مملكة القدس، وللسامريين الفلسطينيين العرب توراتهم الخاصة ولم يكن أنبياء اليهودية يتبعون تعاليم التوراة وفق ما أنزلها الله على موسى عليه السلام. وقام الكثيرون منهم بتزويرها، وأضافوا عليها وفق مآربهم الخاصة، وحادوا عن تعاليم النص الديني. وما ذكر عن أرض الميعاد تتنافى مع الوقائع والتاريخ؛ ثالثًا الصهيونية ليس لها علاقة من حيث المبدأ بالديانة اليهودية، وما لجوءها للديانة إلا لتنفيذ مشروع استعماري غربي رأسمالي، غير ذي صلة باليهود واليهودية، الهدف منه ترويض البسطاء والمضطهدين منهم في "جيتوات" أوروبا ليقبلوا الهجرة لفلسطين، حتى يستخدموهم أدوات استعمالية وعبيدا لتنفيذ المشروع الاستعماري؛ رابعًا لم تكن اليهودية، ولن يكون اليهود يومًا شعبًا من قومية واحدة، بل هم من قوميات متعددة؛ خامسًا يهود أوروبا وروسيا وآسيا الوسطى وغيرهم، هم من مملكة الخزر، وليس لهم علاقة بالسامية. والساميون، هم العرب بمن فيهم
أتباع الديانة اليهودية، وهم الأقلية المضطهدة في إسرائيل؛ سادسًا إن أراد الإسرائيليون العيش بسلام في وسط الحاضنة العربية، عليهم أن يتمسكوا بخيار السلام، ومنح الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والرواية والتاريخ حقوقه الوطنية المقبولة، لأنه دون ذلك لن يكون لهم مسقتبل في الأرض حتى لو عمروا مئة عام أخرى.

ومن موقع المتمسك بالتاريخ وحقائقه، والمنحاز للسلام ومصالح الشعوب، ومتبصرًا في جائحة الكورونا العالمية وأخطارها، أطالب الجميع باستخلاص الدروس والعبر من اللحظة السياسية لبناء جسور السلام، والتعاضد لمواجهة تحديات الوباء الكارثية، وترسيخ أواصر التسامح والتعايش بين بني الإنسان بعيدًا عن الإسقاطات الاستعمارية، والروايات الكاذبة، التي كانت ومازالت عبارة عن وباء يهدد حياة الإنسان، ويضعه بشكل مستمر في دوامة الحروب والعنف والإرهاب والدم.

وباء الكورونا، ووباء الاستعمار وجهان لعملة واحدة، لا يحققان السلام، بل العكس صحيح. إنهما عوامل هدم، وتخريب، وقتل، ونفي للإنسان كإنسان، وإبادة للحضارة الإنسانية. لذا من يريد مواجهة الكورونا والاستعمار الإسرائيلي عليه أن يتمسك براية السلام، لأن الطريق الآخر له نهاية، ولن يكون يومًا المستعمر رابحًا، بل الخاسر، كما القاتل في كل جريمة قتل.