إذا أردنا تحليل وبحث سياسة أي نظام دولة في العالم علينا التركيز أولاً على إيمان رأس الهرم السياسي باعتباره المؤتمن على القرار والمسؤولية واستبيان قداسة الروح الإنسانية ومكانتها على رأس قائمة الاعتبارات والحيثيات والأهداف والأحكام والقرارات، فالأمر ليس مرتبطًا بدولة صغيرة أو كبيرة، ولا بدولة حرة مستقلة وأخرى تحتلها منظومة استعمار عنصري، أو دولة لا تملك  قرارها المستقل، وإنما يتعلق بفلسفة صاحب القرار الأول في الدولة ورؤيته لمكانة الروح الإنسانية وقيمتها التي لا تبرح الرقم واحد في جميع الأحوال  في السلم والحرب، في الكوارث والنعم، في الخسائر والمكاسب.

لا يفكر رئيس دولة فلسطين محمود عباس (أبو مازن) عند إعلان أي قرار إلا بمصلحة الشعب الفلسطيني وسلامته وأمنه وتقدمه وعزته وكرامته، ولا يخطر بباله عند إعلان قرار في لحظة تاريخية مصيرية أنه سينال شهادة من أي نوع أو مستوى من أي منظمة أو مؤسسة أو دولة في العالم، لكنه يعتبرها – إن صدرت وقد صدرت - إقرارا واعترافا بجدارة الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والسيادة، وبمكانته المميزة بين الشعوب المتحضرة الحضارية قديمًا وحديثًا.. وبحسن أداء أجهزة الحكم، المنحازة دومًا إلى المصلحة العليا للشعب، المتحررة من نفوذ وسيطرة مراكز قوى متنوعة تغلب مصالحها ومكاسبها المادية أو السلطوية وحتى المعنوية، حتى ولو كان ثمن ذلك ضحايا أبرياء، كما حدث في كثير من الدول التي تأخرت كثيرًا في إعلان حالة الطوارئ لمواجهة وباء فيروس كوفيد 19 (الكورونا) حيث برز جليًا التنازع بين سلطة الدولة الأخلاقية كما جسدته فلسطين والصين كنموذجين متقدمين، وسلطة مراكز القوى المالية والصناعية والتجارية كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية والحزبية أيضًا كما حدث مع منظومة الاحتلال في تل أبيب كنموذجين سلبيين حيث أرغم الوباء رأس الدولة على اتخاذ قرارات ولكن بعد فوات الأوان .. حيث يسعى نتنياهو على سبيل المثال لاستغلال الوباء لإرهاب الإسرائيليين لدفعهم إلى قبول تشكيل حكومة برئاسته للهروب من موعد السابع عشر من هذا الشهر حيث أولى جلسات محاكمته بتهم الفساد!!.

يُعرف عن الرئيس محمود عباس دقته في إعلان القرارات ومتابعته الحثيثة لتنفيذها، لذا جاء قراره بإعلان حالة الطوارئ انعكاسًا لسعة ثقافته ومعارفه وثقته بقدرات أجهزة الدولة وفي تاجها رئاسة الحكومة والوزارات وأولها الصحية والأمنية والاقتصادية، التي لا يمكن مقارنتها بأجهزة دول مستقلة أو كبيرة، لكنه يعتقد أن الشعب الفلسطيني يفجر ينابيع إبداعاته الخلاقة، وتزداد عرى الأخوة والتعاضد والتكافل في الظروف الصعبة وعند الشدائد، لذا كان سباقًا لإعلان حالة الطوارئ وأوكل لرئيس الحكومة الدكتور محمد اشتية مهمة تنفيذها وتطبيقها، فبدت لوحة التناغم والانسجام العملي والتنفيذي للقرارات مابين الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة بأحسن صورها، ما أدى إلى نتائج فاقت التوقع في شأن محاصرة الفيروس والحد من تأثيراته ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى التصريح بلسان مدير مكتبها في فلسطين جيرالد روكنشواب بالقول: "أعتقد أنها خطوة ممتازة أن يأخذ مكتب رئيس الوزراء القيادة في إدارة هذه الأزمة وأخذ الأمر بهذا الشكل الجدي من أعلى مستوى سياسي". ثم قال: "إن الحكومة الفلسطينية اتخذت إجراءات متقدمة لمكافحة انتشار فيروس كورونا، حيث تقوم الحكومة ووزارة الصحة بإجراءات تفوق ما هو موصى به دوليًا من حيث فحص المرضى، وإجراءات الحجر، والصحة العامة، للحد من إمكانية انتشار الفيروس، وتخفيف الآثار المترتبة على المواطنين".

إشادة منظمة الصحة العالمية بقرار الرئيس إعلان حالة الطوارئ وإجراءات الحكومة ووصفها بالجريئة رسالة تعنينا حتى وإن كانت قيادتنا لا تفكر بها، لكننا نحيلها مباشرة إلى كل الذين يحاولون إنكار حقوقنا وأحقيتنا وجدارتنا، ويتعاملون معنا كحالة إنسانية، فهؤلاء وعلى رأسهم دونالد ترامب وجنراله اللابس بدلة مدنية وربطة عنق في المنطقة بنيامين نتنياهو عليهم أن يعرفوا أننا قد تقدمنا عليهم عندما كانت المنافسة دون سلاح، وأننا بكفاءاتنا العلمية وبقدراتنا البسيطة استطعنا مواجهة التصدي لوباء (فيروس الكورونا) وتركيعه وإخضاعه، بينما دول كبرى كالولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا العظمى تأتي إعلاناتها وخططها لمواجهة (الفيروس الخفي) بصورة تضم عناصر فشل وعجز مسبق، ونعتقد في هذا السياق أنهم يعرفون السبب، وهو أن دولهم تقوم على القوة المادية المالية والعسكرية وتسخر الإنسان وتتم التضحية به من أجل ديمومتها، أما دولتنا فإنها تقوم على قوة القيم الأخلاقية التي تنتصر للإنسان ومكانته وروحه المقدسة، قوة قيم ستنتصر حتمًا في معركة لا ينفع فيها السلاح المدمر، فالكورونا لا يهزمه النووي ولا سلاح  الدمار الشامل، وإنما عقل إنسان، يؤمن بالعلم كسبيل للحياة الأفضل، وقوته المثالية للقضاء على أوبئة وأمراض تهدد الإنسانية دون تمييز بالعرق أو الجنس أو الدين، عقل إنسان يؤمن بالسلام لأنه الدواء الشافي لكل مشاكل ومعاناة البشرية من الحروب والأوبئة القاتلة، لذا كان لنا شرف تسمية رئيسنا بالرئيس الإنسان رئيس السلام.