نبض الحياة| بقلم: عمر حلمي الغول
  
الوطنية (القومية) هي هوية وشخصية شعب من الشعوب ارتباطًا بالجغرافيا والسكان والتاريخ والموروث الحضاري على بقعة من الكرة الأرضية، اكتسبت فيها المجموعة البشرية المحددة من خلال اللغة والروابط الاجتماعية والثقافية والسوق الخاصة هويتها القومية، وباتت لها مصالح مشتركة. وعليه اتسمت المجموعات الإنسانية عبر توزعها على الجغرافيا الكونية في نطاق حدود محددة بسمات وخصال خاصة ومتمايزة عن الأقوام والشعوب الأخرى. وتعمقت المصالح بالدفاع عن الذات الجمعية أمام هجمات واعتداءات وتغول الشعوب الطامعة في أرضهم، بهدف حماية الذات والإرث التاريخي، ورفض العبودية والاستعمار.
ومع دخول البشرية عصر النهضة والتنوير مع نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، ونشوء التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية البرجوازية تحددت معالم ومكانة الشعوب على خارطة الكون، وإن تأخر بعضها لأسباب ذاتية وموضوعية، غير أن شعوب الأرض قاطبة واكبت التطور، وأنجزت عموما استقلالها السياسي والاقتصادي مع منتصف القرن العشرين.
في خضم التطور الكوني للمجتمعات البشرية، شهدت شعوب الأرض صراعات محتدمة، قادتها الطبقات الحاكمة، التي تمثل رأس المال لأهداف استعمارية، ولنهب ثروات الشعوب الضعيفة، وما زالت الصراعات تقض مضاجع البشرية حتى يومنا هذا. لأن الاستقلال السياسي والاقتصادي للدول والمواثيق والمعاهدات بينها، وما وثقته في عصبة الأمم والأمم المتحدة لم تحل دون سطوة وجنوح الطغم المالية عن فرض سيطرتها ونفوذها على شعوب الأرض المستضعفة، أو التي رهنها قادتها لنفوذ قوى عالمية أخرى. كما أن قوى الغرب الرأسمالي، التي كان لها سبق القصب في امتلاك ناصية التطور، استغلت معارف الشعوب الأخرى لصالح رفعة مكانتها في التسيد على الأرض. ليس هذا فحسب، بل انها خاضت الصراع مع أقرانها من الأقطاب المتنافسة والمتصارعة معها، وهو ما شهدته البشرية في الحروب البينية، والعالمية لإعادة تقاسم النفوذ في العالم وعلى حساب الشعوب الفقيرة والمهزومة. وجرى في تلك الحروب نفي شعوب من الخارطة الكونية، كما حصل مع الشعب البولندي بين 1772 و1918 عندما تم تقاسم اراضيها بين بروسيا والأمبراطورية الروسية والنمسا، وحتى الدول الكبرى نتيجة الهزيمة واختلال موازين القوى بينها رضخت وساومت على نفوذها وبعض أراضيها لصالح حماية الكل القومي، كما حصل في سلام بريست ليتوفسك بين دول المحور وروسيا البلشفية في مارس 1918، حيث تخلت بموجبها عن جميع التزاماتها تجاه الحلفاء، وتنازلت عن مقاطعة كارس أوبلاست لصالح ألمانيا.. لكن الاتفاقية ألغيت في نوفمبر من ذات العام بعدما استسلمت المانيا في الحرب العالمية الأولى.
ما أود استخلاصه، أن من حق كل شعب من شعوب الأرض الدفاع عن حقوقه الوطنية، وعدم الاستسلام لمشيئة العدو. لكن ليس لحد الفناء. وبهذا الصدد أستشهد بما قاله لينين دفاعا عن صلح بريست: إذا واجهك قاطع طريق بمسدس، وأنت لا تملك شيئًا، وطلب مالك أو حياتك، فالمساومة تحتم حماية الذات مقابل التنازل عن المال. وهذا ينطبق على الصراع مع القوى المحلية والإقليمية والدولية.
وإذا عدت لجادة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (وانا لا احب إستخدام هذا المفهوم، أو تقزيم الصراع العربي الصهيوني، لأنه لم يكن يومًا صراعًا فلسطينيًا صهيونيًا، بل صراع عربي رأسمالي غربي صهيوني، وفلسطين رأس الحربة فيه) فإن اختلال موازين القوى بين الذات العربية وقوى الأعداء منذ الإنفكاك عن الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1914، ونقض الغرب الرأسمالي الاتفاق مع الشريف حسين، وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو 1916، التي جاءت كمكملة لمؤتمر كامبل نبرمان 1905/ 1907 وما تلاها من خيوط المؤامرة، التي استهدفت الأرض الفلسطينية لإقامة "الوطن القومي للصهاينة"، وليس لليهود (وهنا فرق كبير بين الصهيونية واليهود، فالأولى أداة استعمارية وظفت اليهودية لخدمة الغرب الرأسمالي)، كانت موازين القوى مختلة بشكل فاضح ضد العرب، وتم انتزاع الجزء الأكبر من فلسطين 78% من أرض فلسطين التاريخية لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني، ثم احتلت كل فلسطين وسيناء المصرية والجولان السورية في أعقاب هزيمة 1967.
تمظهر عن واقع الصراع تطور في الفكر السياسي الفلسطيني تحديدًا لجهة التعامل بِمرونة وواقعية مع موازين القوى المختلة لصالح دولة الإستعمار الإسرائيلية المدعومة من الغرب الرأسمالي كله، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ونتاج بؤس الواقع العربي، لصالح حماية الذات والشخصية الوطنية، لكن قيادة الثورة الفلسطينية رفضت المساومة عليها، ودافعت، وما زالت تدافع عن الشخصية والمصالح الوطنية وضمنا القومية من خلال تمسكها بخيار استقلال دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان عودة اللاجئين على أساس القرار الدولي 194، ودعم نضالات أبناء الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة من أجل المساواة.