لا يقبل إنسان حُرّ عاقل وعادل في أحكامه ورؤيته ومبادئه الانسانية أن يكون الشعب الفلسطيني ضحية الضحية، فإن كان يهود من جنسيات عديدة قد حلَّ عليهم ظلم بمستوى محرقة هي بكلِّ المقاييس جريمة ضدَّ الإنسانية فإنَّ المجتمع الدولي سيبقى جبينه ملطخًا بالعار إن لم يسارع الى إطفاء المحرقة المشتعلة منذ أكثر من سبعين عامًا ويزج بالفلسطينيين تباعًا في أتونها.

إنَّ الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يكون الضحية الأكبر لصراع القوى الاستعمارية في الحرب العالمية الثانية، ولن يرضى أن تكون نتائجها على حساب وجوده وحريته واستقلاله وسيادته، هذا ما يجب أن يعلمه من جديد رؤساء وقادة الدول الذين يلتقون على أرض عاصمة فلسطين المحتلة (القدس) خلال هذه الأيام في الملتقى الدولي الخامس حول جريمة النازية بحق يهود أوروبا المعروفة بـ(الهولوكوست) فالاحتلال الإسرائيلي الاستعماري العنصري الإرهابي مازال قائمًا، وترتكب منظومته الجرائم ضدَّ الإنسانية بحق شعبنا، وتسخر آلتها الحربية المدمرة لمنع شعبنا الفلسطيني من تحقيق إنجاز استقلاله على أرض دولة فلسطين التي اعترفت بها دول العالم على حدود الرابع من حزيران من العام 1967.

ليس مطلوبًا من رؤساء وقادة الدول في هذا الملتقى أكثر من الانتصار لمبادئ حقوق الإنسان والسلام والعدل التي ينادون بها دائمًا، وأن تكون مواقفهم من الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي متوازنة، ولن يتم ذلك إلّا وفق رؤية شاملة تنتصر لمبادئ وقرارات وقوانين الشرعية الدولية ومواثيقها، والانتصار لحقّ الشعب الفلسطيني في الحُريّة والاستقلال والسيادة على أرضه ومواردها في دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية كسبيل ناجع لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، ذلك لإيقاف (جريمة حرب) مستمرة منذ حزيران في العام 1967 ووضع حد نهائي للعنصرية والتطرف والاحتلال الإسرائيلي، والعمل الجاد الفوري لتحقيق سلام عادل ودائم وشامل في المنطقة عبر تطبيق القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، بما يؤمن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والسيادة في دولته وعاصمتها القدس الشرقية وحق دول المنطقة للعيش بأمان واستقرار وسلام.

من المهم تذكير هذا العدد الكبير من رؤساء وقادة دول محبة للسلام والعدل في العالم بأن هذا الملتقى يقام في (القدس المحتلة) هي حسب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ارض فلسطينية محتلة وعاصمة دولة فلسطين، وأن المسؤولية التاريخية تقتضي منهم تحمل مسؤولية تاريخية في هذه اللحظة المصيرية التي تواجهها هذه المنطقة الحضارية من العالم، لكبح جماح محتلين ومستوطنين متطرفين وعنصريين اسرائيليين والتصدي لهم لمنعهم من تحويل الصراع الى ديني لا يقدر أحد في هذا العالم على تطويق نيرانه، أو السيطرة على تداعياتها إذا قدر لمعتنقي الإرهاب والتطرُّف إشعالها.

إنّنا كشعب حضاري كنّا وما زلنا على رؤيتنا الإنسانية نتفاعل مع قضايا حقوق الإنسان في العالم دون النظر إلى دين المظلوم أو عرقه أو جنسه أو جنسيته، فالشعب الفلسطيني كان أول المتعاطفين مع ضحايا النازية العنصرية والمحرقة بحق يهود أوروبا، وقضت مبادئ شعبنا وقيمه الإنسانية بإدانة جريمة (الهولوكوست) باعتبارها جريمة ضدَّ الإنسانية ووصمة عار على جبين مرتكبيها، أمّا المجتمع الدولي الذي ارتضى أن يكون الشعب الفلسطيني الضحية التالية حيث تمت تسوية المشكلة اليهودية في أوروبا على حسابه، وتراجع عن فرض إرادته في تنفيذ قرار التقسيم (١٨١) الصادر في العام ١٩٤٧ وتنفيذ كل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بخصوص القضية الفلسطينية فإنّه سيلطخ جبينه بوصمة عار تاريخية ثانية هي بالنسبة لنا أفظع لأنَّ هدف (المحرقة الجديدة) إنهاء وجود شعب فلسطين في أرض وطنه التاريخية والطبيعية.

لقد جسد رئيس الشعب الفلسطيني محمود عبّاس "أبو مازن"، عظيم القيم الإنسانية الناظمة لتوجهات ومبادئ وأهداف حركة التحرر الوطنية الفلسطينية فكان سباقًا إلى إدانة المحرقة (الهولوكوست) وكشف وقائع التعاون بين الحركة الصهيونية والنازية في هذه الجريمة، لتحقيق أكبر وأوسع هجرة لليهود المضطهدين من أوروبا إلى فلسطين.. وذلك في كتابه (العلاقات السرية بين النازية والصهيونية) المنشور منذ العام ١٩٨٤م باللغة العربية. وهو في الأصل رسالة دكتوراة قدمت في عام ١٩٨٢- لنيل الدرجة في الجامعة الروسية لصداقة الشعوب. فالرئيس "أبو مازن" اعتبر اليهود الذين قضوا في المحرقة وتم اقتلاعهم من أوطانهم الأصلية وتم دفعهم للهجرة تحت وطأة الظلم والإرهاب العنصري ضحايا مؤامرة كبرى، كان الشعب الفلسطيني الوجه الآخر لجريمة تاريخية مازالت تجري أحداثها منذ أكثر من سبعين عامًا.

سيستفيد اليهود في (إسرائيل) كثيرًا إن قرأوا بتعقل كتاب الرئيس "أبو مازن"، وتيّقنوا بأنَّ خطابه من أجل السلام الدائم والعادل والشامل لم يكن تكتيكًا سياسيًّا وإنما استراتيجية كسبيل لحل الصراع وإيقاف مسارات العنف وسفك الدماء إلى الأبد، سيستفيد يهود (إسرائيل) إن هم التزموا عقلية السلام والعدل، وناصروا من يعمل على تحقيقهما في المنطقة، فهم بحاجة إلى إقناع العالم بأنَّ ضحايا النازية العنصرية هم أكثر الناس حاجةً للسلام، وممارسته على أرض الواقع، وعليه فليس أمامهم إلّا نبذ الدعوات للحروب والاحتلال والاستيطان ورفض القوانين العنصرية وإسقاطها والالتقاء مع الدعوة للتعايش بسلام على أساس قرارات الشرعية الدولية ومواثيقها وقوانينها.

نحنُ لن نكفَّ عن إدانة جريمة الهولوكوست باعتبارها جريمةً ضدَّ الإنسانية، لكنَّنا لن نقبل أبدًا أن يرتكب ضحية النازية جريمة حرب بحقِّ شعبنا الفلسطيني، فالواقع على أرض فلسطين المحتلة الذي يجب أن يراه الرؤساء والقادة في الملتقى الخامس من الحقائق والبينات ما يثبت جريمة الحرب والظلم التاريخي الواقع على هذا الشعب، فهنا الاحتلال وارهابه وجرائم الدولة وهي القوة القائمة بالاحتلال، وهنا الاستيطان والمستوطنون الإرهابيون الذين يحرقون الأطفال والعائلات أحياء، ويقتلون نساء فلسطينيات على الطرقات، وهنا تجري وقائع جريمة حرب حسب معايير القانون الدولي، حيث يتم التغيير الديمغرافي الذي تحدثه القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) عبر مصادرة أراضي المواطنين الفلسطينيين واقتلاعهم من أراضيهم وبناء المستوطنات عليها، لإسكان يهود يتم تهجيرهم من أوطانهم الأصلية لإسكانهم مكان الفلسطينيين المهجرين تحت إرهاب وقوة سلاح جيش الاحتلال الإسرائيلي.

هنا في فلسطين أشعل ورثة الحركة الصهيونية محرقةً للشعب الفلسطيني بعد مؤامرة المحرقة التي أشعلوها مع النازيين في أوروبا لإحراق اليهود، لكنَّ نضالنا من أجل انتصار إنجاز استقلالنا وتحقيق السلام سيطفئ كل هذه المحارق إلى الأبد، ويعيد للإنسانية صورتها الحقيقية.