لا شيء يتسلل الى الوجدان الدافئ والعميق كما تفعل الأغنية السياسية. إن الوتر هنا لا يوقظ النغم فحسب، وإنما يوقظ صفاء الانتماء وطهارته. وعندما تفعل ذلك تفعله من غير تسطيح، وتفعله بانتزاع روح الكلمة من صمتها، انتزاعها لجعلها لحنا ينساب إلى العقول، ولونا يبدد غبار الأحرف.

من دار الأوبرا في دبي، شاهدت عبر اليوتيوب، حفلا لفرقة العاشقين. انتشيت حدّ الانصهار والتلاشي في دهاليز ذاكرة أيام تسكننا حسرة غيابها.. غياب الفرقة لسنوات، لم يلغ حضورها الدائم، وما زالت أغانيها تراتيل عشاق الأرض الطيبة. مرّ حين من الوقت خلنا أن الفرقة قد لملمت أشرعتها الكبيرة التي فردتها على مدى سنوات طويلة وارتحلت كارتحال الأيام السعيدة.

المفاجأة أن أفراد الفرقة أنفسهم، أدوا الحفل على مدار الساعات الثلاث والنصف.. من كان منهم طفلا غادر طفولته، وغدا شابا، ومن كانوا يافعين أصبحوا أكثر نضجا. إنما أداء الفرقة لم يتغير إن لجهة الحماس أو قوة الصوت والعزف الذي يتطلب نفسا قويا وعميقا. وللجمهور دوره في تنشيط الحفل، بالفرح العارم، الرقص والدبكة وعلم فلسطين الكبير. وسرعان ما تكتشف حضورا مهما للعاشقين وللأغنية السياسية. قدمت الفرقة بعضا من أغانيها القديمة، إضافة الى بعض جديدها من الأغاني. أحد المشاهدين علق بعد انتهاء الحفل، أن الأغاني الجديدة جميلة، لكنه تمنى لو انهم قدموا المزيد من أغانيهم القديمة، ما يعكس التوق والحنين الى زمن كانت فيه فلسطين على مسافة أمتار.. هكذا خيّل للفلسطيني.

حدثني الكاتب والمناضل عبد الله حوراني، ذات لقاء، عن نشأة الفرقة، ويومها تعرفت لأول مرة على اسم المايسترو المقدسي حسين نازك، ولم يغادرني حتى الآن أملي بتدوين ذاكرته المرتبطة بتاريخ الفرقة، وتاريخه الموسيقي والوطني. في العام 1977، قام المايسترو حسين وصديقه الموسيقي محمد ذياب والشاعر أحمد دحبور، بتأليف الفرقة، بدعم من عبدالله حوراني، وبدأ البحث عن أعضاء الفرقة، لن أستطيع أن أحصي مبدعيها جميعهم، خوفا من خيانة الذاكرة، فكلهم شكلوا أيقونة الأغنية السياسية، التي واكبت مسيرة الكفاح الفلسطيني، الذي حرر الأغنية الشعبية من مفهوم التهويمات الفردية، وتجاوز المرحلة الأولى التي اتسمت بالبكائية.

في زمن الانتفاضة الأولى، انتجت فرقة العاشقين، "مغناة الانتفاضة، وأطفال الحجارة".. لا ينصرف الحديث هنا عن تأريخ للأغنية السياسية بمراحلها المختلفة، والنقلات النوعية التي شكلتها كل مرحلة.. فهذا بحث يطول، وقد قمت بهذه المهمة منذ ربع قرن مضى.

لكن ظهور الفرقة بعد طول انقطاع، وبالزخم ذاته، تنسيك عدد الأجيال التي تربت على وقع أغانيها وأناشيدها، منذ العام 1977.. فزرعت في النفوس عشقا لتراب الأرض الطيبة، وأرّخت لأحداث تاريخية، من إعدام الأبطال الثلاثة في اغنية "من سجن عكا طلعت جنازة". وأحداث بيروت "اشهد يا عالم علينا وع بيروت".. والمخيمات. وأسرى معسكر أنصار، المعسكر الذي استضاف فردا أو أكثر من معظم العائلات الفلسطينية واللبنانية.

أسهم فنانون لبنانيون في انتاج فرقة العاشقين.. من موسيقيين ومطربين. فوحد النشيد الشعبين، كما وحدهم الدم الصارخ باسم فلسطين والجنوب اللبناني. بعض أفراد الفرقة ورثوا الفن والأدب عن أجدادهم، بثينة وهناء منصور، ورثن الفن عن جدهما الشاعر والمغني "أبو سعيد الحطيني". عائلة الهباش التي نبغ منها خمسة فنانين.. من الظلم محاولة تعداد أسماء المبدعين، الذين تجلّوا في ظلال فرقة العاشقين، وباقي الفرق والعائلات التي صنعت تلك المسيرة الفنية أو السيمفونية المتناغمة مع عبق الأرض واللوز والزيتون..

في ذلك الزمن المنتمي الى جيلي، عُرفت أسماء الشعراء الذين أسهمت أشعارهم في رفد الأغاني التي أنعشت الذاكرة الفلسطينية. محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، احمد دحبور... ولم تأخذ حقها من الشهرة والمعرفة، أسماء شعراء، ترددت أشعارهم بطقوس تعبّدية، وبقيت اسماؤهم غير معروفة للكثيرين، أبو الصادق الحسيني، ميخائيل عيد، وطلعت سقيرق وغيرهم..

أعلنت فرقة العاشقين هويتها ورسالتها الواضحة كالطلقة المباشرة..

هذي الجراح من فلسطين/ أرسلتها الرياح/ هبت النار والبارود غنى/ حملتها والعتابا.. والميجنا.. والسماح/ الكلام المباح ليس مباحا.. ونغنيه فالأغاني.. سلاح/ سرنا.. راية على رأس رمح/ فأذيعي أسرارنا يا رياح.