بداية القول، لا أجمل من البدء بقراءة علاقة العشق بين الشاعر نزار قباني، واللغة العربية. "وما بين حب وحب أحبك أنت/ وما بين واحدة ودّعتني وواحدة سوف تأتي/ أفتش عنك هنا وهناك/ كأن الزمان الوحيد/ زمانك أنت/ كأن جميع الوعود/ تصب بعينيك أنت"..

غالبا ما كنت أتساءل، حين يشتد الوجد بي للغتي العربية، إن كانت كل الشعوب تحب لغتها بهذا الشكل. واعتقدت دوما أن لغتنا العربية هي الوحيدة التي تملك ذلك الاتساع والرنّة الموسيقية، وجزالة الجمل..

يوم بدأت علاقتي باللغة النرويجية، وجدتها ثقيلة على النطق وفي وقعها على الأذن. ولم أفهم، كيف يمكن لهذه اللغة أن تُغنى، سيما أغاني الأطفال. مع الوقت والتعلم، وجدتها لغة جميلة بأغانيها، عذبة في تعاطيها مع أغاني الأطفال والأعياد فأحببتها.

في اليوم العالمي للغة العربية التي فرضت حضورها في العالم، وعلى منظمة الأمم المتحدة، وقالت للعالم نعم أنا هنا.. قالت ذلك ليس بفصيح العبارة، بل بقوة تأثيرها على لغات كثيرة، وتركها العديد من مفرداتها التي دخلت معاجم تلك البلدان. تحتوي اللغة النرويجية، على مفردات عربية، وأكثر الظن أنها مرتبطة بزيارة أحمد ابن فضلان، للبلاد الإسكندينافية، واكتشافه أن للفايكنغ اطلالة على الثقافة العربية.

بات واضحا الميل لتعلم اللغة العربية، في الغرب وخاصة في النرويج، مترافقا مع دعوة لتجاوز الصورة النمطية للغة العربية، بما هي وعاء الثقافة العربية. مارست لسنوات تعليم اللغة العربية، للنرويجيين في أوسلو، وكنت شاهدة على مدى إقبالهم على تعلمها، الى الحد الذي دفع صديقتي هدى، التي تعمل في مجال الترجمة الى عتابي".. الله لا يجبرك.. أنت بتعلمي النرويجيين العربي وبياخدوا منّا فرص العمل، ارحمينا"!

في الوقت الذي يتهافت الغرب على تعلم لغتنا العربية، تنتشر اللغة الانجليزية، على نطاق واسع في العديد من بلداننا العربية، لتأخذ مكانة اللغة الأم. إجادة لغات جديدة، أمر ضروري، لكن أن تفقد الأجيال الصاعدة لغتها الأم، فهذا أمر فيه نوع من عقدة النقص، إذ يتباهى بعض الأهل في الاغتراب، بعدم إجادة أولادهم للعربية، وكأنها رمز من رموز التخلف.

وبالمناسبة، تحضرني ملاحظة، المستوى اللغوي للعديد من الشخصيات الاعلامية والسياسية، والأخطاء الشنيعة التي يرتكبونها.. وهذا ما حفزّني الى متابعة الناطقين باللغة النرويجية في وسائل الإعلام، من إعلاميين وضيوف ومحللين، ومدى اتقانهم التام للغتهم.

وقد لاحظت، ضآلة الفوارق بين اللغة اليومية للنرويجيين واللغة المكتوبة. فيما هناك فرق شاسع بين الفصحى واللهجة العامية في لغتنا، هذه الصعوبة لمستها لدى طلابي، فمن سبق له أن تعلم الفصحى، يصعب عليه فهم اللهجة اليومية والعكس صحيح! فأين يكمن الخلل، إن جاز لنا اعتباره خللا! وحين أتابع أحفادي، أجدهم يتكلمون اللغة النرويجية، كالتي أقرأها في جريدة، وتعابير لغوية لا يملكها الطفل العربي في مثل أعمارهم وبلغتهم العربية. وبمناسبة الحديث عن اللهجات، لي صديقة مغربية، لم نكن نتفاهم بلهجاتنا المحلية، فنعمد للحديث بالفصحى أو استعمال اللغة الإنجليزية أو النرويجية!

ويحضرني بيت شعر للشاعر حافظ ابراهيم، على لسان اللغة العربية:

رموني بعقم في الشباب وليتني

عقمتُ فلم أجزع لقول عداتي.

وبما أن لغتنا العربية، تأتي في المرتبة الرابعة للاستخدام على شبكة الإنترنت، فأي تأثير سيكون له على اللغة سلبا وإيجابا؟ ولا نغفل عن اللغة المستحدثة، كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية!!

لا جديد لو قلنا إن اللغة هوية الأمم، ووعاء ثقافتها، والحافظ لتاريخها وحضارتها. فعندما بدأ المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين، قام بإحياء اللغة العبرية، لتكون هوية القومية الجديدة، وجامعة لأقوام شتى سيتم تجميعها من أكثر من مئة دولة، ولا رابط بينها إلا الدين، فلا لغة ولا ثقافة مشتركة بينهم. وكانت كتابات اليهود تتم بلغات انتمائهم الأصلي. ففي العصور الوسطى، كتبت أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية، باللغة العربية. وحين فاز الكاتب اليهودي بجائزة نوبل للسلام، أجمع النقاد كلهم أنه لم يكن لجودة العمل الروائي إنما لكتابته باللغة العبرية الجميلة!

في النرويج، تستخدم اللغة النرويجية، الـ "بوك مول"، وهي لغة التخاطب والكتابة. والى جانبها لغة أو لهجة "النرويجية الجديدة". وهي في الحقيقة اللغة القديمة. قام أحد اللغويين النرويجيين الوطنيين، بفكرة أن اللغة الحالية، طرأ عليها تغيير كبير نتيجة وقوع النرويج تحت اشراف الدنمارك حينا والسويد حينا آخر. فقام بعمل جاد وشاق، فارتحل الى المناطق النائية في النرويج، حيث لم يتأثر السكان "بالمحتلين" وبقوا يتكلمون لغتهم الأصلية. فقام بجمعها وتكونت اللغة الأصلية للنرويج!

خاتمة الكلام، لا خوف على لغتنا الجميلة. لكن كيف يمكننا ردم الهوة أو تقليل المساحة بين الفصحى والعامية؟ هذه مسؤولية مجمع علماء اللغة، وربما يجيبنا الدكتور فاروق مواسي على هذا التساؤل..