البحثُ عن الشّهرةِ ليسَ بالأمرِ الجديدِ ولا هو اختراعُ حقبةِ التعرّي العلنيِّ وخلعِ الخصوصيّةِ جانباً كما تقتضي ضروراتُ النشاطِ عبر وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ، فالشّهرةُ إغراءٌ ينادي الإنسانَ منذُ القِدَمِ ويُجَمّلُ لهُ أقبحَ الطّرُقِ وأقلّها توافقاً مع الأخلاقِ والعاداتِ والثقافةِ وغيرِها من ضوابطِ السلوكِ السويِّ. ولم يكن ماكيافيللي ونظريّتُهُ الانتهازيّةُ سوى "تقنينٍ" لما مارسَهُ البشرُ منذُ فجرِ التّاريخِ، وأصبحت مقولتُهُ بأنَّ "الغايةَ تبرّرُ الوسيلةَ" عنواناً لثقافةِ البحثِ عن الشهرةِ والوصولِ إلى الهدفِ بأيٍّ ثمنٍ كانَ، حتى لو كان المقابلُ هو التخلّي عن الكرامةِ الشخصيّةِ أو الإساءةُ إلى أقربِ الناسِ ومنعُهم من تحقيقِ أهدافِهم التي يسعونَ للوصولِ إليها بأمانةٍ وجدٍّ ومثابرة. 

 

يغرقُ كثيرٌ من الباحثينَ عن الشّهرةِ في وحلِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، ولا يعترفُ واحدٌ منهم إلّا ما ندرَ بما فقدَهَ نتيجةً لإدمانِهِ على البحثِ عن وهمِ الشهرةِ، فالثّمنُ لا يقتصرُ على إهدارِ الوقتِ والتخلي عن الخصوصيةِ، بل إنّهُ يمتدُّ ليشمل الإضرارَ بشبكةِ العلاقاتِ الشخصيّةِ في إطارِ العائلةِ والأصدقاءِ، فالأولويةُ هي للعالَمِ الافتراضيِّ الغنيِّ بمظاهرِ النّفاقِ والمديحِ والإطراءِ، وهي مظاهرُ تفي بغرَضِ دغدغةِ التّرجسيّةِ وحبِّ الذّاتِ ووهْمِ الشهرةِ. وتُجمِعُ دراساتُ المختصّينَ بالسلوكِ الاجتماعيِّ على أنَّ مستخدمي وسائلِ التواصلِ يخضعونَ لعمليةِ "غربلةٍ" ذاتيّةٍ تؤدي في النهايةِ إلى نشوءِ مجموعاتٍ مغلقةٍ أمامَ كلِّ ما يتعارضُ مع أفكارِها، وهو ما يُنتِجُ تجمّعاتٍ لا حصرَ لها تشغلُ نفسَها ووقتَها إمّا بالمديحِ المتبادَلِ أو بهجاءِ شخصٍ أو فكرةٍ أو مجموعةٍ من النّاس. هذه العمليةُ المتواصلةُ من الاختيارِ السّلبيِّ هي مصدرُ الانغلاقِ وأساسُ التطرّفِ الفكريِّ والتعصّبِ للرأيِ وشيطنةِ الآخرينَ، فالجماعةُ المغلَقةُ على ذاتِها لا تملكُ القدرةَ على التطوّرِ أو التأثيرِ الإيجابيِّ في محيطِها، كما أنّها نقيضُ الحوارِ رغمَ ما تتظاهرُ بهِ من استعدادٍ لنقاشِ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، فكلُّ ما توهِمُ نفسَها بأنّهُ "حوارٌ داخليٌّ" ليس سوى استمرارٍ لعمليةِ "الغربَلةِ" المتواصلةِ وتصليبِ النّواةِ التي تَجمعُ حولَها مجموعةَ "المُخلّصينَ" الذينَ يعدّون أنفسهم لإنجازِ رسالةٍ وهميةٍ تستثني العالمَ كلَهُ وتتقوقعُ في دائرةٍ ضيّقةٍ يظنُّ من فيها أنَّ الحقيقةَ أصبحت ملكاً لهم وحدَهم وأنَّ كلَّ ما هو خارجُ دائرةِ "المحظوظين" إنّما هو ضلالٌ ملينٌ وكذبٌ لا مجالَ للتعايشِ معهُ ولا للقبولِ بوجوده.

 

يجبُ تحصينُ الذّاتِ ضدَّ إغراءاتِ الشّهرةِ الوهميّةِ، وهي إغراءاتّ تتعاظمُ كلّما لاحَت في الأفقِ إمكانيّةُ التنافسِ للوصولِ إلى مكسبٍ أو الحصولِ على موقعٍ، فقد أصبح "الفيسبوك" دائرةً انتخابيّةً واحدةً تضمُّ كلَّ شعوبِ الأرضِ ولا تخضعُ سوى لمعاييرِ الحملاتِ الانتخابيّةِ التي تخلو من احترامِ عقلِ "النّاخبِ" وتراهنُ على الخللِ الذي يطيحُ بذاكرةِ الجمهورِ نتيجةً لتزاحمِ الأحداثِ وتسارُعها. وهنا لا بدَّ لأيِّ فطينٍ أن يلاحظَ كيفَ تطولُ قائمةُ منتقدي "الفسادِ" كلّما قصرت المسافةُ التي تفصلُنا عن الانتخاباتِ. والمشكلةُ لا تكمنُ في طولِ القائمةِ ولا بحجمِ ما تتحدّثُ عنهُ من خرابٍ أخلاقيٍّ، لكنّ المعضلةَ هي في حقيقةِ كَونِ الغالبيةِ العظمى من منتسبي قائمةِ "أعداءِ الفسادِ" الجُدُدِ إمّا من أهمِّ رموزِهِ أو من السّاكتينَ عليهِ لو كانت اتهاماتُهم صحيحةً.

 

*واهمٌ منْ يراهنُ على أنَّ سرَّ شهرتِهِ وضمانةَ فوزِهِ بمغنمٍ شخصيٍّ يكمنُ في الانضمامِ إلى أعداءِ الوطنِ والقضيةِ والشّعبِ من جيوشِ الشتّامينَ الذين يملأونَ "ساحاتِ" الفيسبوك ولا نرى لهم أثراً في ساحاتِ المقاومةِ الفعليّةِ كلما تعرّضَ شعبُنا لاعتداءاتِ وجرائمِ جنودِ الاحتلالِ ومستوطنيه.

 

١٧-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان