لمْ يكنْ توقيعُ اتفاقيّاتِ أوسلو في ١٣-٩-١٩٩٣ في حديقةِ البيتِ الأبيضِ حَدثًا عاديًّا، فلم يَفصلْ بينَ التوقيعِ وما سبقهُ منْ تسريباتٍ عنْ مفاوضاتٍ مباشِرَةٍ سرّيةٍ بين وفدَيْنِ فلسطينيٍّ وإسرائيليٍّ سوى أسبوعينِ أو يزيدُ قليلاً، وهي فترةٌ لمْ تكنْ كافيةً للتّقليلِ من حَجمِ المفاجأةِ التي شكّلتْها المصافَحةُ بين الشّهيدِ القائدِ أبو عمّار ورئيسِ الوزراءِ الإسرائيليّ إسحق رابين. ولو أردْنا تلخيصَ محتوى ما تمَّ التوقيعُ عليهِ لقُلنا: اتفّقَ الطرفانِ على أنَّ هناكَ فترةً انتقاليّةً تمارِسُ خلالَها السّلطةُ الوطنيّةُ المنبثقةُ عن منظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ المسؤوليةَ في المناطقِ التي سينسحبُ منها الاحتلالُ، على أنْ يستمرَّ التفاوضُ بين الحكومةِ الإسرائيليةِ والمنظّمةِ لإنجازِ الحلِّ النهائيِّ خلالَ فترةٍ لا تتجاوزُ خمسَ سنوات. لقد كان هذا التّوافقُ مَخرجًا يُعطي الطّرفَينِ ما يحتاجانِهِ منَ الوقتِ لإعادةِ صياغةِ الأولويّاتِ التي تحكمُ العلاقةَ بينُهما، ولمُمارسةِ سياسةٍ جديدةٍ على الأرضِ تتجاوزُ تجربةَ عقودٍ منَ الصرّاعِ لمْ يتمكّنْ عبرَها أيٌّ منَ المتحارِبَينِ إجبارَ الطرفِ الآخرِ على الاستسلامِ لشروطِه.

 

لقد كانَ دخولُ الشهيدِ القائدِ أبو عمّار ورفاقِهِ وقوّاتِهِ التي يشكّلُ الفدائيونَ نواتَها الصلبةَ إلى أرضِ الوطنِ بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ منْ معركةِ فرْضِ الإراداتِ في سلسلةٍ لا تنقطعُ من تأويلِ كلِّ كلمةٍ وفاصلةٍ تضمّنها اتفاقُ أوسلو، وهو ما كشفَ عن الأهدافِ المتناقضةِ بمُعظمِها بينَ طرفَيْ الاتفاقِ الذي أجْهَزَ اليمينُ الإسرائيليُّ عليهِ عمليًّا باغتيالِ إسحق رابين بعدَ مرورِ ما يزيدُ قليلاً عن سنتينِ على مشهدِ المصافحةِ التاريخيّةِ في حديقةِ البيتِ الأبيضِ، ثُمَّ واصلَ اليمينُ الإسرائيليُّ العملَ على تقويضِ كلِّ ما تضمّنته تفاهمات أوسلو من إمكانيّةِ التوصّلِ إلى حلٍّ تاريخيٍّ بالتّفاوضِ، وتوّجَ هذا اليمينُ مسيرةَ نَفضِْ يديهِ من أوسلو بحصارِ الشهيدِ أبو عمار واغتيالِهِ سواءً بشكلٍ مباشرٍ أو عبرَ أدواتٍ مأجورةٍ، ليُسجِّلَ التاريخُ أنَّ اليمينَ الإسرائيليَّ قد اغتالَ القائدَيْنِ اللذَيْن امتلكا الجُرأةَ للتّوقيعِ على اتفاقٍ يكسرُ كلّ قواعدِ الصرّاعِ ويعطي أملاً بإمكانيّةِ رسمِ ملامحِ حلٍّ يُنهي الاحتلالَ ويؤسّسُ لتعايشٍ قد يستمرُّ طويلاً. ومنْ مهازلِ التّاريخِ أنَّ الذين اغتالَوا رابينَ وأبو عمّار هم أنفسُهم من يتباكونَ على عَدمِ وجودِ شريكٍ يفاوضونهُ!

 

ليس هناكَ مجالٌ لسَرْدِ تفاصيلِ الحقبةِ التي انقضتْ منذُ توقيعِ تفاهماتِ أوسلو، لكنَّ المؤكدَ أنَّ منظمةَ التحريرِ الفلسطينيّةِ قد حدّدت رؤيتَها لهذهِ التفاهماتِ عبر الشّعارِ الذي رافقَ بداياتِ عودةِ القيادةِ ومقاتليها إلى الوطنِ، وهو شعارُ "غزّةُ وأريحا أوّلاً" الذي يعني ببساطةٍ أنَّ مُدنَ فلسطينَ وقراها ومخيّماتِها كثيرةٌ، وإنْ كانت البدايةُ في منطقَتَينِ منفصلتَينِ فإنّ الهدفَ هو الدّولةُ المستقلّةُ ذاتُ الترابطِ الجغرافيِّ والسيادةِ الكامِلة. هكذا كانت الممارسةُ على الأرضِ، وهكذا كانَ منطِقُ المفاوضينَ، وهو ما أدّى في النهايةِ إلى رفضِْ عقليةِ الابتزازِ الإسرائيليِّ وما نتجَ عنْ ذلكَ منَ اندلاعِ الانتفاضةِ الثّانيةِ التي شكّلت أكبرَ معركةٍ في تاريخِ الصراعِ الممتدِّ لأكثرَ من مئةِ عام، وكانتْ تتويجًا لفشلِ مسيرةِ أوسلو بعدَ أن سيطرَ اليمينُ الإسرائيليُّ على مقاليدِ الحكمِ في دولةِ الاحتلال.

 

كانَ قرارُ شارونَ بالانسحابِ أحاديِّ الجانبِ من غزّةَ إعلانًا واضحًا عن انتهاءِ مرحلةِ أوسلو وبدايةِ تطبيقِ سياسةٍ إسرائيليّةٍ لا ترى أيةَ إمكانيّةٍ للاعترافِ بالحقوق الفلسطينيّة. وقد تجاوبت "حماس" عمليًّا مع هذا المخطّطِ الإسرائيليّ عندما نفّذت انقلابَها على الشّرعيةِ وفصلتْ غزّةَ عن المشروعِ الوطنيِّ الفلسطينيّ. ومع تظاهُرِها برَفضِْ أوسلو إلّا أنَّ "حماس" تتمسّكُ بكلّ إفرازاتها ونتائجها ولا تعملُ إلا ضمنَ إطارِها، فهي تتشبّثُ بما تُسمّيهِ شرعيةَ المجلسِ التشريعيّ ذي الصلاحياتِ المحدودةِ أصلاً، لكنّها ترفضُ دخولَ المجلسِ الوطنيِّ المَعنيِّ بالشأنِ الفلسطينيِّ برمّتهِ. وهي تُشكّكُ بشرعيةِ السيدِ الرئيس أبو مازن بصفتهِ رئيسًا للسّلطةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ، ولا يعنيها أنّهُ رئيسٌ لمنظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ التي تُعطي الشرعيّةَ للسّلطةِ وتنزعُها عنها متى تشاءُ. لقد قزّمت "حماس" دورَها وحدّدت مقاساتِهِ ليتلاءمَ مع إفرازاتِ أوسلو، ورغم الضجيجِ الصاخبِ يبقى هدفُ "حماس" محصورًا في تثبيتِ سيطرَتِها على قطاعِ غزّة، دونَ أن تعنيها المخاطِرُ التي تتهدّدُ القضيّةَ والوطنَ والشّعبَ، وأوّلُ تلكَ المخاطرِ "صفقةُ القرنِ" وما ترمي إليهِ من تحايُلٍ على الأهدافِ الوطنيّةِ الفلسطينيِّة عبرَ إقامةِ دويلةٍ في غزّة، وهو ما يتقاطعُ مع سياسةِ قيادةِ "حماس" ويحقّقُ الأهدافَ التي سعى إليها شارون عندما قرّرَ التخلّصَ من أعباءِ غزّةَ وتَرْكِها كقنبلةٍ موقوتةٍ لتنفجرَ في طريقِ المشروعِ الوطنيِّ الفلسطينيّ، وهو مشروعٌ أثبتت التجربةُ أنّهُ لا يعني قيادةَ "حماس" لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، فما يعنيها هو العملُ ضمْنَ مَنطِقِ أوسلو ونتائجها ما دامت تثبّتُ أركانَ انقلابِها في غزة، وفي سبيلِ ذلكَ لا تمانعُ "حماسُ" في مفاوضةِ حكومةِ الاحتلالِ عبرَ قطر ومصر، ولا تتردّدُ في طلب العونِ من تركيا وإيران، وتُفتي بجوازِ العلاقةِ مع المفصولِ دحلان وحزبِ الله، ثُمَّ تلعَنُ أوسلو والتّنسيقَ الأمنيَّ وتُقسِمُ أنَّ فلسطينَ وقفٌ إسلاميٌّ!

 

*أوسلو، ١٩٩٣: غزّة وأريحا أوّلاً

*"حماس"، ٢٠١٩: غزّة أولاً وآخِرًا

 

١٣-٩-٢٠١٩

 

*رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان