الفاتحُ من كانون الثاني/ يناير ١٩٦٥ هو بدايةُ تقويمٍ فلسطينيٍّ جديدٍ، هكذا قرّرت مَجموعةٌ من الفدائيينَ المتمرّدينَ على مرارةِ النّكبةِ ومأساةِ اللّجوءِ، وهو قرارٌ غيّرَ مجرى التّاريخِ وشكّلَ حدًّا فاصلاً بينَ مَرحلةِ التيّهِ التي أعقبتِ النكبةَ الوطنيةَ الكُبرى وبينَ الثّورةِ الفلسطينيّةِ المُعاصِرَةِ بما حَملتْهُ من رياحِ التّغييرِ الشّاملِ في حياةِ شعبِنا وفي تاريخِ النضّالِ الوطنيّ الهادِفِ إلى الانتقالِ نحوَ العملِ الدؤوبِ الهادفِ إلى تنقيةِ الذاكرةِ الوطنيّةِ من كلِّ آثارِ النكبةِ، وأولُّ تلكَ الآثارِ هو الشعورُ بالذّنبِ والتقصيرِ في حمايةِ الوطنِ والذّودِ عنِ الأرضِ، فجاءتِ الثّورةُ لتؤكِّدَ قدرةَ الشّعبِ على أخذِ زمامِ أمورِهِ بيدهِ بعدَ أنْ تخلّصَ من عبء النكبةِ الثقيلِ ووصلَ إلى قناعةٍ بأنَّ الهزيمةَ الحقيقيةَ لا تكونُ إلّا بالاستسلامِ للواقعِ، وأنْ لا ذَنْبَ لشعبِنا أنّهُ تُرِكَ وحيدًا في معركةٍ تكالبت فيها ضدّهُ كلُّ قوى الشرِّ والظُّلمِ في العالمِ المُعاصِرِ، فأصْبحَ حالُ مَن يلومُهُ لأنّهُ لم يتمكّنْ من الصّمودِ في وجهِ هذهِ القوى كحالِ من يلومُ ضحايا زلزالٍ مدمِّرٍ لأنَّهم لم يصدّوا عن أنفسِهم ما حملهُ منْ ويلاتٍ وخراب.

لقد صَنعت الثورةُ المعاصرةُ جيلاً فلسطينيًّا جديدًا أكملَ مسيرةَ الأبطالِ الذين تحيطهم ذاكرةُ شعبِنا بالعنايةِ والإجلالِ والتقديرِ، من الشّهداءِ الثلاثةِ محمد جمجوم وعطا الزيرِ وفؤاد حجازي مرورًا بالقسّامِ وعبدالقادر الحسيني وقافلةٍ طويلةٍ من الرّجالِ الذينَ قدّموا دماءَهُم من أجلِ الوطنِ.

لقد شكّلَ جيلُ الثورةِ طليعةَ الأمّةِ في إعادةِ الاعتبارِ إلى كرامتِها بعد هزيمةِ حزيران ١٩٦٧، لينتقلَ من مرحلةِ تجاوزِ آثار النّكبةِ إلى مرحلةِ تكريسِ الشخصيةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ وتجسيدِ منظمّةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ ممثّلاً شرعيًّا ووحيدًا للشّعبِ الفلسطينيِّ ووطنًا معنويًّا يسيّجُ الذاكرةَ الوطنيةَ، متجاوزًا ما مثّلتهُ النكبَةُ من حقبةٍ مؤقّتَةٍ قاتمةٍ، ومُرسّخًا لحقّ العَودةِ كنقيضٍ للنكبةِ وكردٍّ وطنيٍّ فلسطينيٍّ على ما أرادَ الأعداءُ لها أنْ تكونَ.

ما زالت الذاكرةُ الوطنيّةُ بحاجةٍ إلى تعزيزِ مكانةِ مرحلةِ الثورةِ المعاصرةِ وترسيخِ أبعادِها وإنجازاتِها لتصبحَ جزءًا ثابتًا من وعيِ الأجيالِ الشّابّةِ التي وُلِدَت بعد انتقالِ الثّورةِ من المنفى إلى أرضِ الوطنِ، وهذهِ مهمّةٌ لها الأولويّةٌ في عصرِ "الإنترنيت" وما يعجُّ بهِ العالمُ الافتراضيُّ والفضائياتُ من الأكاذيبِ والشائعاتِ وتزييفِ التّاريخِ الحديثِ لشعبِنا، وذلك ضمنَ عمليةٍ ممنهَجةٍ تهدفُ إلى قلبِ الحقائقِ وترسيخِ روايةٍ مضلِّلَةٍ يروّجُ لها "شهودٌ على العَصْرِ" احترفوا مهنةَ الهرَبِ كلّما كانت الثّورةُ وقيادُتها تنحازُ إلى خيارِ الصّمودِ والمقاومةِ ورفضِ الاستسلامِ لإرادةِ الأعداءِ. ومن هنا يصبِحُ واجبُ تعزيزِ مناعةِ الذّاكرةِ الوطنيّةِ من خلالِ الاهتمامِ بتفاصيلِ الثّورةِ مسؤوليّةً جماعيّةً تبدأُ من البيتِ وتستمرُّ في مراحلِ التعليمِ والعملِ والحياةِ اليوميّةِ كافّةً، فنحنُ بحاجةٍ إلى نشرِ المعرفةِ بتاريخِ الثورةِ المعاصرةِ وقادتِها من أبو عمّار وأبو جهاد وأبو إياد وجورج حبش والآلافِ من الشّهداءِ الذينَ يشكّلُ كلُّ واحدٍ منهُم مدرسةً للوطنيةِ الفلسطينيّةِ يجبُ أن تُدرّسَ حتى تُصبحَ جزءًا ثابتًا من تركيبةِ الشخصيّةِ الوطنيّةِ للأجيال الشابّة، مثلُها مثلُ كلِّ المحطّاتِ المفصليةِ التي سبقت الانتقالَ إلى الوطنِ، بدءًا من العمليةِ الفدائيةِ الأولى في ١-١-١٩٦٥ مرورًا بمعركةِ الكرامةِ وفتنةِ أيلولَ وأحراشِ جرش، ثُمَّ الانتقالِ إلى لبنانَ وترسيخِ الوجودِ الفدائيِّ في "فتح لاند" وصولاً إلى معاركِ الدفاعِ عن الوجودِ الفلسطينيِّ في لبنانَ وملحمةِ الصمودِ الأسطوريّ في بيروتَ ومعركةِ القرارِ المستقلّ في طرابلس، حتّى الانتقالِ من المنفى القريبِ إلى مَنافٍ بعيدةٍ وعديدةٍ شكّلت محطّةَ انتظارٍ مؤقّتٍ في طريقِ العودةِ إلى الوطنِ.

*ما زالت الذّاكرةُ الوطنيّةُ بحاجةٍ إلى تسليطِ الأضواءِ على كلِّ مرحلةٍ ومعركةٍ وشهيدٍ شكّلوا معًا نسيجَ أسطورةِ الثورةِ الفلسطينيّةِ المُعاصِرَةِ التي انتقلتْ بشَعبِنا من ظلامِ النّكبةِ إلى مَرحلةِ تكريسِ فلسطينَ وشعبِها كحقيقةٍ راسخةٍ لا يُمكنُ لأحدٍ أن يتجاوزَها.

١٢-٩-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان