هناك من الأحداث ما يجعلك تخرج عن طورك! وتصرخ أو تبكي أو تنوح، وهناك من المواقف السياسية أو الحياتية ما يجعلك في غاية العجب أو التشكُّك والريبة!
  فأن يتمَّ اختيار اللحظة المناسبة يعد وعيًا على ما يبدو لا يتوفَّر للكثير من الساسة وخاصة المؤدلَجين الذين يتحكّمون برقابنا، ويسيرون بنا إلى مشاهد الفتنة بلا أي أدب أو عقل أو حُسن تقدير، سواء في الاختلاف أو الاعتراض، أو في التفريق بين الأساسي والثانوي، وبالطبع حينما يتوه المعني بين الخيارات فيهتبِل الفرصة غير المناسبة لإعلان موقفه المشبوه!
الموقف الأول الذي جعل من اللبن سائل الوضوء هو موقف البعض الحاقد في فصيل "حماس" للأسف، ونرجو ألّا يكون الكل في "حماس"، إذ يختار اللحظة غير المناسبة دومًا ليشن هجومه الواسع ليس على عدوه، عدونا، بل على غريمه الآخر! على حركة "فتح" ورئيسها وعلى السلطة، فيرسل للأمم المتحدة والمنظمات الدولية دعوات لعدم التعامل مع الرئيس أبو مازن! وكأنَّهم شاءوا أم أبوا يرفضون المصالحة، ويوجّهون سهامهم للغريم في مقابل التهدئة والتنسيق الأمني منهم في غزة، وفي مقابل استجداء الأموال من الإسرائيلي والمندوب السامي القطري!
ولمن نسي فإنَّ فصيل "حماس" أرسل إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، عام 2018 رسالة قبل خطاب الرئيس عبّاس القوي ضد الاحتلال الصهيوني وضد المخطط الأمريكي مفادها أنّه لا يمثِّل الشعب الفلسطيني وأنَّ ولايته انتهت وهو يغتصب السلطة!! كيف ذلك؟!
  يومها حين طالبت "حماس" "الإسلامية والوطنية والمجاهدة"! بعدم التعامل معه، قال الرئيس أبو مازن: (إن ما قامت به الإدارة الأمريكية من انحياز لـ"إسرائيل" باعترافها بالقدس عاصمة لها ونقل سفارة بلادها إليها، واتخاذها إجراءات عقابية ضدنا، لن يهزّنا، كما أنَّ كل ذلك لن يزيل أو يقوض حقنا في القدس، ولن يجعلنا نتنازل عن ثوابتنا الوطنية وحقوقنا المشروعة، ولن يجعلنا نوافق على صفقة عصر مخالفة للشرعية الدولية، ولن يغيّر حقيقة أنَّ القدس الشرقية هي عاصمة دولتنا الفلسطينية، فالقدس ليست عقارًا للبيع، بل تحمل، بالنسبة لنا قيمًا دينية وتاريخية وحضارية، ولن تكون فلسطين دون القدس بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة عاصمة لها).
 ومضيفًا: (إنّ العقوبات الموجهة ضدنا من الإدارة الأمريكية بقطع المساعدات عن الحكومة الفلسطينية، وعن الأونروا، لن تغيّر مواقفنا، ولن تلغي ملف اللاجئين وحقوقهم المكفولة طبقًا لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها القرار 194.وإنّ مواصلة الاستيطان الاستعماري، والاحتلال لأرض دولة فلسطين، لن يكسر إرادتنا، ولن ينال من عزيمتنا، لأنّ شعبنا لا يركع إلّا لله وحده، فهذه أرضنا ومقدساتنا، وهي أرض آبائنا وأجدادنا) أي بدلاً من دعم الرئيس وبرنامجنا هذا وبدلاً من وضع نفسها تحت إمرة هذا البرنامج الوطني والإسلامي والكفاحي والجهادي تهاجمه بشراسة!؟
لا وعي ولا إدراك للانتهازيين والمأزومين لفكرة التفرقة بين خوض الصراع الداخلي، وبين العهر الخارجي حيث معادلة التخوين والتكفير والتشهير، فنحن يجب أن نحترم خوض الصراع بيننا، وفي دوائرنا على هلهلتها أو ضعفها، وليس بشد الأزر بالخارجي أي كان!
 لسنا على توافق مع الرئيس عبّاس في عددٍ من مواقفه بوضوح، ولسنا على توافق مع مواقف السلطة في كل ما تفعل، ولكن ما لا نقبله هو أن اختلف في بيتي -وحقّي في ذلك يجب أن يظل مُصانًا- وأن أجعل عدوي، أو الآخر هو الفيصل والحكم في خلافي الداخلي!؟ فأقتل أبي أو ألقي أمي من الشبّاك!
وما لا نقبله أن أجعل من خلافي الداخلي المفهوم مدخلاً لقطع العلاقات البينية، وما لا نقبله هو الخنوع للهوى والنزق السلطوي هنا وهناك، أو الانصياع للمحور الإقليمي الذي يلعب بدمنا، أو أن يكون خلافي الداخلي مدعاة لهدم كلِّ المعبد!
وفي ثاني الأمور التي يقول فيها الفلسطينيون والعرب (جعلتنا نتوضّأ باللبن) هي أن تختار نفس الفئة الحاقدة من المأزومين الوقت غير المناسب أيضًا، حيثُ أنّه إلى ما سبق سيتم ضمّ الأغوار! والمخطط الأمريكي التصفوي أو صفعة القرن تسير باطّراد! تختار نفس الفئة وبإصرار مريب أن تشنَّ حربها ضد السلطة ورئيسها-بغض النظر عن دقة أو حقيقة مضمون الاعتراض- وتخاطب العالم بحرقة بادية!
  تخاطب "حماس" العالم بمنطلق "كفاحي وجهادي"! ليقيلوا أبو مازن ويسقطوه ولا يتعاملوا معه! كما حصل بتكرار عجيب من تشريعي "حماس" في 11/9/2019 على قاعدة أنَّ الأولوية عندهم لذواتهم، وليست في دعم الرئيس والجماهير في حربها ضد الهيمنة الأمريكية وحربها ضد التساوق العربي، وحربنا ضدّ التدخلات الإقليمية التي تعبث بوضوح في الفصائل فتجعلهم يشنون حروب الإقليم المتقاتل على جثتنا، فنقدّم الشهداء وهم يلتقون مع الأمريكي والإسرائيلي و"يضحكون على لحانا" بقليل من المال هنا أو هناك! أي قليل منه للضفة وقليل منه لغزة!
وفي الثالثة من الأمور المثبطة  -ما يجعل الحليم ينقض وضوءَه ويتوضّأ باللبن- هو عدم إمكانية وجود فرصة لتحقيق وحدة الموقف، أو التشبيك! على الأقل لسبب الانقسام والتفتّت والانقلاب الذي انطلق من غزة عام 2007 ليعمَّ كامل المنطقة العربية، فيتخذ العرب منطق الانقلاب أو الانقسام محطة أو منصة لا يتنازلون عن استخدامها في حروبهم الداخلية، فيتحاربون داخل كل قطر، وداخل كل محور، وبين المحاور.
  ففي حين ينطلق أذناب الأمة ومستسلموها لمصافحة الإسرائيلي والأمريكي سيّان بينهما، فلا ممانعة ولا مقاومة ولا عدو أكبر ولا شيطان أصغر، فمَن يعادي الشيطان الأكبر، أي أمريكا، يعادي العرب ويهيمن على أربع عواصم عربية، ويمد اليد اليوم لمصافحة الأمريكي بكل محبّة!
وذاك الطرف المراهن على الأمريكي أن يخوض حربه ضد إيران يتفاجأ إمّا لغباء في الفهم أو لحلم! أنّ هذا خيال ووهم. فلم ينجح  الحليف "نتنياهو" في جر الأمريكي لحرب ضد مصالحه ولعيون العرب أو نفطهم! وتبقى حقيقة أنَّ المصالح الأمريكية الثابتة هي في تفتيت الأمة، ودعم احترابها الداخلي وتسييد الإسرائيلي كأولوية لا ثاني لها في المنطقة إلا اغتصاب ثروات العرب بإرادتهم!
لعلَّنا ندرك الفرق بين الفصل والوصل، الفصل بين الأساسي والثانوي من قضايانا، الوصل في الثانوي بين المتناقضين أو المختلفين دون التخلي عن المواقف الداخلية، والفصل بالالتقاء حول الرئيس في تغليب القبضة الواحدة خارجيًّا ضدَّ العدو الواحد.