يحيي الشعب الفلسطيني وكل المناصرين بحقوقهم العادلة يوم 27-8 اليوم الوطني والعالمي لاسترداد جثامين الشهداء الذين تحتجز اغلبهم سلطات الاحتلال في مقابرها العسكرية السرية والتي تسمى مقابر الارقام، وجزء من الشهداء لازالوا محتجزين بالثلاجات الباردة.
260 شهيدًا فلسطينيًّا وعربيًّا لازالوا مأسورين في الغياب مقيدين مدفونين مجهولي القبر والاسم والظلال، شهداء يمارس عليهم موتاً آخر لأنهم لم يموتوا حتى الآن، لم يذوبوا تحت التراب في النسيان، لم يتوبوا عن تحريض اهل القبور على الثورة والعصيان، هم اكثر حرية من الأحياء كما يقول الاسرائيليون، دمهم توسع وتوزع وسكن صرخة كل الأجيال القادمة، اعادوا ترتيب خطاهم وارواحهم لموا أشلاءهم واكتملوا في المكان.
لم تكتف دولة الاحتلال بقتل الشهداء واعدامهم وتصفيتهم، تمزيق اجسادهم بالقنابل والصواريخ والرصاص، لم يشبع القناص من تفجير رؤوسهم، يخشون ان الموت لم يمت، لهذا يحتجزون رفاتهم في البعيد، يعتقدون ان الأرواح تعود في حياة الآخرين، ويعتقدون ان احتجاز الجسد سوف يدفن البطولة ويدمر الارادة والرمز والمسيرة، وحتى لا ينجوا أي شهيد ويعود الى ذويه، شرعت دولة الاحتلال قانوناً يجوز لها احتجاز جثامين الشهداء، وشنت حرب القرصنة والسرقة على اعانتهم المالية، هي حرب اسرائيل الخامسة على الأموات، وحسب تقاريرهم العسكرية والأمنية فإنّ الشهداء الفلسطينيين هم الاقدر على التنبؤ بيوم القيامة، أسماؤهم لها تبعات الزلازل، أسماؤهم تلمع على كل قلب وحائط ونشيد وسحابة، أسماؤهم واقفة كالأشجار في كل شارع وحديقة ومظاهرة، أسماؤهم حجارة كثيرة وصلوات متتالية واغنية.
لو اصغت مؤسسات حقوق الانسان جيداً، لو اقتربت من باب الثلاجة الملتهبة لسمعت صوت الشهداء، حينها لادركت ان الجريمة مزدوجة، الجريمة مستمرة، الجريمة ممنهجة ومتعمدة، ليس كما يدعي الاسرائيليون بان احتجاز الشهداء بغرض المبادلة والمساومة والمفاوضة بغرض الابتزاز على مبادئ وشرائع حقوق الانسان، انما هذا العقاب الانساني وهذه الممارسات التي لم تحدث الا بدولة اسرائيل هي الفاشية والعنصرية والبربرية الاسرائيلية الحديثة، هي الهمجية المستهترة بالقانون الدولي والعدالة الانسانية وبالقيم الاخلاقية والدينية، دولة تخشى الأموات، تسجنهم، تذيب اجسادهم تحت التراب، تشطب اسماءهم، دولة خائفة مرتعبة، دولة هرمة ومثقلة بالجرائم وبالحديد والاسلاك والسجون وبرهاب الاموات.
في ثلاجات الموتى حيث يحتجز الشهداء ترى لهيب الدماء وتسمع كلام الجثث، الثلاجات ساخنة وليست باردة، الجثث ليست مجمدة ولا نائمة، الشرايين تنبض، الدماء تتدفق، القلوب تشتعل، العيون مفتوحة صافية ترانا، تقول احدى الجثث: استطيع الحياة، ابذل جهدي، اتحرك لأقنع القلب بالنبض عندي، اتنفس لأقنع الروح بالعيش بعدي، وفي وسع من يذكرني ويبحث عني ان يجدد عمري.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: اطلقوا الرصاص على رأسي من مسافة صفر، كنت جريحاً ملقى على الأرض، لم اكن اشكل خطراً كما يدعون على حياة الجنود، اقترب احدهم واطلق النار على رأسي، فجر رأسي وغرقت في دمي ولحمي وعظمي التي تناثر على الرصيف، رأيتهم يحتفلون بموتي يرقصون ويبتهجون، اعطوا الجندي الذي قتلني وساماً، انه بطل قومي، اعدموني بدم بارد اطفأوا عيني لأني رأيتهم، حملوني في كيس اسود بعد ان فتشوني وتأكدوا من موتي، كانوا مرتعبين ومتوجسين انهم يحملون قدري كقنبلة.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: قتلوني في السجن، في غرفة التحقيق بالمسكوبية، ضربوني وشبحوني وعزلوني، كان المحققون وحوشاً حقيقية، رفضوا اعطائي أي علاج، رفضوا زيارة المحامي او الصليب الأحمر، هناك قرار بقتلي ان لم اعترف، لفظت انفاسي الأخيرة بعد منتصف الليل في تلك الزنزانة الضيقة، كتبت اسمي على جدارها، وقبل ان اسكت السكتة الاخيرة رأيت حريتي القادمة تطل من كوة شباك صغير وسرباً من الحمام الأبيض يصلي علي من بعيد.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: انا اصغر شهيد هنا، انا ولد صغير عمري 16 عاماً سكان القدس، كنت العب القدس وشوارعها ساحتي، الحجارة في يدي هي حجارة القدس السماوية، تصديت مع المرابطين والمرابطات للمستوطنين الغلاة والمتطرفين الذين اقتحموا مسجد الاقصى المبارك، القت الشرطة الاسرائيلية القبض علي، كنت اسيرا مقيد بين ايديهم، اقترب احد المستوطنين واطلق رصاصة اخترقت قلبي، رأيت قلبي ينتفض ويقفز امامي على الأرض، اعدموني ميدانياً تحت غطاء وتشجيع شرطة الاحتلال، لم يكتفوا بقتلي بل شرعوا بضربي بنعالهم وايديهم وبواريدهم، دمي ينزف وجسدي محطم، رأيت امي في اللحظات الأخيرة تبحث عني وتنادي، رأيت اصدقائي في صف المدرسة، وسمعت اجراساً تقرع وصلاة تعلوا فوق السحاب.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: انا اسير قضيت 29 عاماً بالسجون، كنت مريضا تنهش جسدي الأورام الخبيثة، لم تقدم مصلحة سجون الاحتلال العلاج لي على مدار سنوات اعتقالي، كبرت الأورام وانتشرت في جسمي، كنت اموت كل يوم رويداً رويداً، سقطت في سجن عسقلان، لم يودعني احد سوى زملائي الاسرى، اخرجوني الى الثلاجة وليس الى حضن امي، كان الطبيب الذي يرتدي ثوب الجلاد يبتسم، قتلني الاهمال الطبي المتعمد، احكموا باب الثلاجة علي حتى لا اهرب، لازالت السلاسل في يدي، انا لست خائفا من الموت، انا خائف على زملائي الآخرين الأسرى المرضى خاصة المتواجدين في مستشفى الرملة الاسرائيلي يصارعون الموت كل لحظة، يحتاجون الى النجدة، يحتاجون الى نجمة من حرية وليس نجمة من تراب.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: في معهد ابو كبير الاسرائيلي حيث يجري تشريح الجثث اجتمع حولي رجال مسلحون بالسكاكين والسواطير والحقن، سرقوا اعضاء من جسمي، اخذوا مني القرنية والجلد والقلب والكلية، افرغوا جسدي وذهبوا، صرت خفيفاً لقد مارسوا القرصنة على جسمي، عذبوني الف مرة، مزقوني في الدنيا والآخرة.
في لهيب الثلاجة قالت الجثة: من يحررني؟ من يقرأ على روحي الفاتحة؟ من يوصلني الى قبر جميل فوق جبل، حوله ازهار وورد وينقش على شاهده اسمي الرباعي؟ اتمنى جنازة انتمي اليها، اتمنى صوت مؤذن في المغيب، كل العالم يتحدث عن كرامة دفن الميت ويشجب الممارسات والانتهاكات الاسرائيلية باحتجاز جثاميننا سنوات طويلة، من يحررني اذا؟ احتاج ان يكتمل موتي ونومي وقهوتي وصلاة جنازتي، فالنصر موت، وعودة الشهداء بيت، فمن يذيب الثلج عن اجسادنا ويكسب الوقت؟
في لهيب الثلاجة سمعت الجثة تغني بأشعار محمود درويش:
نحب الحياة ما استطعنا اليها سبيلا
ونزرع حيث اقمنا نباتاً سريع النمو
ونحصد حيث اقمنا قتيلا
وننفخ في الناي لون البعيد البعيد
ونرسم فوق تراب الموت صهيلا
ونكتب أسماءنا حجرًا حجرًا
ايها البرق اوضح لنا الليل، أوضح قليلا
نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا.