يُقال إن الحرية لا تقدر بثمن، وأن المرء الكريم الحر، مستعد لدفع كل ما يملك، مقابل ألا يصادرها أحد، أو يغتصبها ظالم، وقد يذهب الحر إلى أبعد حدود العمل النضالي الوطني العقلاني، في سبيل تجسيدها، ليس لنفسه وحسب، بل لمجتمعه الإنساني (شعب الوطن) الذي ينتمي إليه، والحرية بالنسبة للمناضل تعني الحياة، بمعانيها وقيمها وأخلاقياتها، وفرص العمل الصالح، والحرية معيار لقياس التوازن ما بين التضحية والإنجازات، أي بين افتداء الوطن والانتصارات، ولا يجوز بأي حال الإخلال بهذا التوازن.
ذلك أن الإخلال بهذا التوازن سيؤدي إلى إهدار النفس الإنسانية المقدسة، التي يعتبر المساس بها بغير حق قتلاً (جريمة) وهنا نستخلص أن الحرية باعتبارها حقًا لكل إنسان، يتمتع بها، ويمضي لإعلاء شأنها وتجسيدها فكرًا وعملاً، لا يمكن الاقتناع بجدواها ما لم تكن مقرونة بحياة (الشعب) الكريمة، ذلك أن المستفيد الأول والأخير هو الجيل الحاضر، والأجيال القادمة تباعًا، فمن أجل الأحياء، تخط مناهج النضال النظرية، وتطبق عمليًا، أما عكس ذلك، فيعني تنصيب الموت بديلاً عن الحياة، وإزهاق النفس بغير حق، عبر تعميم مفهوم، يحق لنا اعتباره خطيئة بحق الإنسان، عندما يتم اعتماد أرقام التضحيات العظيمة، ومساحة الدمار اللامحدود واعتبارها وحدها إنجازًا (انتصارًا)، وشرعنة، فهذه مفاهيم مبتدعة لا علاقة لها بالفكر الوطني، أو جوهر العقائد السماوية والروحية والفلسفية التي يؤمن بها الناس، ففخر المناضل وتحديدًا عندما يكون في موقع قيادة، أنه استطاع بحكمته ومثابرته وعمله بصدق وإخلاص، وأخذه بكل الأسباب العلمية، والمنطقية، تحقيق إنجازات بأقل تكلفة، فالحرية توسع مساحة الأمل بالحياة، ولا يمكن تحقيق السعة المنشودة بدون، إثبات الحرص على حياة الناس، وسلامة أرض الوطن، وما عليها من خيرات وأرزاق، وشواهد على الأصول الحضارية للشعب.
يحق للشعوب وقياداتها الوطنية السياسية التي خاضت غمار الكفاح الوطني بأشكاله كافة ضد المستعمرين والغزاة والمحتلين، الحديث بفخر عن التضحيات، عندما تتحقق المعادلة، أي عندما يكون النصر بائنًا، شرط أخذ كل شروط المعادلة، دون إغفال عنصر ما، لكن محاولات تسويق انتصار، والفخر بإنجازات، مبينة عليها قائمة بمئات آلاف الضحايا، ودمار لمقومات الحياة الإنسانية كافة، ومنظور قاتم للمستقبل، فهذا عدوان على النفس المقدسة، وخطاب تضليل، وخداع، وتبرير للفشل، ورؤية ذاتية نفعية، شخصية لحياة الإنسان وكرامته، لا يقصد المنغمس بهذا الخطاب، إلا تركيز الأضواء على ذاته وفئته وجماعته وعصبته لا أكثر، مطمئنًا إلى مفاهيم سائدة، حول تعريف الشهيد ومكانته، والاستشهاد، وآلام الجراح، والأسير وصبره، وحب الشعب لوطنه، وثباته على أرضه، فهذا استغلال فظيع، خطير، قد يؤدي إلى إفراغ معنى النضال والكفاح والفداء والتضحية من معانيها، وجدواها الحقيقية، كما قد يؤدي إلى تشويه معنى النصر والحرية، والأهم من كل ذلك، ستنقلب مفاهيم الإنسان لمعنى الحياة، ومعنى الوطن، ومعنى الروح، وقدسية النفس، باعتبارها الرابط بين كل هذه المعاني.
لقد أحسن المناضل المحرر محمد طوس الذي عانق الحرية بعد حوالي 40 سنة أمضاها أسيرًا في زنازين منظومة الاحتلال الصهيوني الاستعمارية العنصرية، بتجسيده المعادلة بين الحرية والحياة، عندما قال في إجابة على سؤال صحفي: "لو كنت أعلم أن حريتي سيكون ثمنها باهظًا من أبناء شعبي، ودمارًا هائلاً كالذي حدث في غزة. لرفضت الخروج من معتقل الاحتلال، وبقيت هناك"، وهذا بيت القصيد، حيث يجسد المناضل فلسفة الصبر والعمل الوطني، والرؤية الصحيحة، والتطبيقات السليمة لمنهج الحياة والنضال، والتضحية من أجل الحرية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها