إذا أردنا إيجاد حلول، سواء كانت سياسية أو اقتصادية ومالية، سنكون بحاجة إلى أن ننظر إلى الواقع الفلسطيني بعين واقعية، ومن دون أي تزيين لفظي عاطفي، الواقع يقول إن قطاع غزة مدمر، ولا يصلح بواقعه الحالي للحياة، والضفة الغربية مقطعة الأوصال، وتغول استيطاني، وإرهاب مستوطنين، وعدوان عسكري لجيش الاحتلال لا يزال مستمرًا، بغاية تدمير واسع للمخيمات والبنى التحتية في العديد من المدن.
وفي نواحي الحياة الأخرى، لدينا اقتصاد يترنح، وحصار مالي متواصل على السلطة الوطنية، ونسبة الفقر في قطاع غزة، وبعد 15 شهرًا من حرب الإبادة الجماعية، تصل إلى 100% وفي الضفة تقرب الـ 35%، في السياسة، لا نزال نعيش الانقسام، وقطاع غزة منفصل وتتحكم به وبقراره حماس، ولا يبدو أنها في وارد الإعلان عن إنهاء الانقسام.
نحن نعيش ضمن هذا الواقع، وهناك تصريحات تتحدث عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. وبالمقابل موقف الدول العربية حتى الآن موقف صلب من مسألة التهجير، وهناك موقف سعودي يربط بين التطبيع والدولة الفلسطينية، ولكن تبقى المخاوف أن تتضاعف الضغوط، ويتم المماطلة في إعادة البناء في غزة، وفي واقع الأمر علينا توقع كافة السيناريوهات.
وهناك احتياجات الشعب الفلسطيني السريعة، وهنا لا نتحدث عن إعادة البناء، إنما عن تيسير وتسيير حياة المواطنين بشكل مقبول نسبيًا تقدر بعدة مليارات من الدولارات، ومن هذه الاحتياجات، مأوى مؤقت، خيام وكرافانات، مستشفيات ميدانية، أدوية، مياه نقية وغذاء، مئات المولدات كهربائية، وغيرها من الاحتياجات.
أما فيما يتعلق بإعادة البناء، فالتقديرات تشير إلى أن هذه العملية تحتاج إلى ما لا يقل عن 70 مليار دولار وإلى عقدين من الزمن على الأقل حتى يعود القطاع كما كان، وفي الضفة وبينما آلة الحرب الإسرائيلية تواصل التدمير، فإن إعادة البناء بدورها بحاجة إلى المساعدات والدعم المالي.
ندرك إننا بحاحة إلى المال والدعم على وجه السرعة، من أجل منع التهجير بشقيه القسري والناعم، والمال كما تقول التجربة لن يأتي بدون شروط، وبالتالي ما هي الشروط المقبولة وغير المقبولة؟ وقد يتركز الضغط علينا بأن نكتفي في هذه المرحلة في إعادة البناء وتأجيل الدولة المستقلة لعقود قادمة.
وفي المشهد الأوسع لسنا وحدنا من يحتاج المال لإعادة البناء، فهناك سوريا ولبنان، وبالتالي ستنظر الدول المانحة إلى أولوياتها، وباختصار مسألة إعادة البناء لن تكون بتلك البساطة حتى من الناحية الواقعية.
ومن الواضح أن دولاً كثيرة مانحة سوف تشترط ألا تكون حماس في المشهد، على الأقل في السنوات القليلة القادمة، وبالتالي تعطيل عملية إعادة البناء، كما أن نتنياهو لا يزال يصر على عدم تسليم قطاع غزة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وغياب أي تصور متفق عليه لليوم التالي. قد يكون من الحصافة أيضًا أن نلاحظ أن الحرب لم تنته، وأن الحرب ليست بالمدافع فقط، وأن التهجير لا يزال مطروحًا بطريقة أو أخرى، كما أن مصير الضفة ليس واضحًا ما دامت في إسرائيل حكومة يمينية متطرف فيها سموتريتش وعلى رأسها نتنياهو المتحمس دائمًا لمشاريع الضم.
وفي نظرة أكثر عمقًا للواقع بالضرورة أن نلتفت لمخاطر طرح الدولة المصغرة، وما يسرب بأنها ستشمل 80% من قطاع غزة، بعد احتفاظ إسرائيل بسياج أمني بعمق 700 متر، و40% من الضفة فقط أي بمساحة في مجملها لا تقل عن أربعة آلاف كيلومتر مربع من مساحة فلسطين التاريخية البالغة مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع. فالواقع الفلسطيني يترواح بين البقاء بدون إعمار لفترة طويلة أو القبول بإعادة الإعمار مقابل التطبيع، أو بحل نهائي يبقي من 90 إلى 95% من فلسطين بيد إسرائيل.
- السؤال: كيف يمكن أن نواجه هذا الواقع بكل ما فيه من التحديات؟
لا يمكن مواجهة ذلك بالأساليب القديمة، ولا بالنصوص ولا بالمنطق الذي جرت على أساسه الحوارات الداخلية السابقة، الأمر يحتاج إلى مواقف واضحة وجريئة وسريعة، من جانب حماس تحديدًا، عليها أن تقف لمرة واحدة موقفًا غير فئوي، بعيدًا عن أي مراهنات غير واقعية، عليها أن تعلن من جانب واحد إنهاء الانقسام، وأن تقول صراحة أنها توافق على تسلم السلطة الوطنية زمام الأمور في القطاع، وأنها تنسحب برضاها من المشهد مؤقتًا، خصوصًا أن مسؤولية القطاع ليست صعبة بل تكاد تكون مستحيلة، فبالكاد وبتضافر كل الجهود أن تنجح مهمة إعادة البناء. بالمقابل يمكن تقديم ضمانات لحماس بأنها ستكون شريكًا في عملية البناء وهي تتحول من جسم عسكري إلى جسم سياسي، وأنها ستأخذ تمثيلها في المؤسسات الوطنية جميعها عبر اتفاق مؤقت ومن ثم عبر صناديق الاقتراع.
المهم أن يدرك الجميع أن تقوية السلطة الوطنية ومنظمة التحرير وليس إضعافهما في هذه المرحلة هو مصلحة وطنية عليا، لأنه في هذه العملية ليس هناك طرف خاسر، بل الجميع سيجد له مكانًا في النظام السياسي. ولكن ما نلمسه حتى الآن أن حماس لا تزال تتمسك برهاناتها، وإمكانية أن تبقى في المشهد في القطاع، وتوحي بأنها لم تهزم، الخطورة في هذا الموقف أن أطرافًا عديدة سوف تستخدم تخندق حماس خلف رهاناتها للقفز عن القضية الفلسطينية، وفي واقع الأمر فإن الكرة وطنيًا في ملعب حماس، فهل تغلب الحركة المصلحة الوطنية على مصلحتها الفصائلية؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها