"كلُّ من أخذ قرشًا ليس من حقه يجب أن يرجعه".. كان هذا كلام الرئيس محمود عبّاس قبل نحو شهرين من الآن ولأول مرة عندما أُثيرَ موضوع الزيادة على رواتب الوزراء في الحكومة السابعة عشرة.
أصدر يوم أمس قرارًا يعكس مبدأ الالتزام والانسجام ما بين القول والعمل، حيث نصّ القرار على إلزام رئيس وأعضاء الحكومة السابعة عشرة بإعادة المبالغ التي كانوا قد تقاضوها عن الفترة التي سبقت تأشيرة سيادته الخاصة برواتبهم ومكافآتهم، ودفع المبلغ المستحق عليهم دفعة واحدة واعتبار المبالغ التي تقاضوها لاحقًا لتأشيرة سيادته المذكورة آنفًا مكافآت وإضافة إلى ذلك استعادة المبالغ كافّةً التي تقاضاها رئيس وأعضاء الحكومة السابعة عشرة بدل إيجار، ممن لم يثبت استئجاره خلال نفس الفترة ".. وبذلك تكون الأمور قد وضعت في نصابها الصحيح بعد أن ضرب الرئيس مثلَين في يوم واحد، حيثُ أصدر قرارًا ثانيًا قضى بإنهاء خدمات كافّة مستشاريه، "بصفتهم الاستشارية" بصرف النظر عن مسمّياتهم أو درجاتهم، وكما قرّر سيادته، إلغاء العمل بالقرارات والعقود المتعلقة بهم، وإيقاف الحقوق والامتيازات المترتبة على صفتهم كمستشارين.
القرار الأول خطوة متقدمة وكانت منتظرة على طريق استرداد أموال للخزينة العامة كانت صرفت كزيادة على رواتب الوزراء في الحكومة السابقة، لكن الملفت أيضًا استعادة بدلات إيجار ممّن يثبت أنّه استلمها ولم يكن مستأجرًا بالفعل، ما يعني إشارة انطلاق من أعلى المستويات الرسمية لقطع دابر مخادعة النظم واللوائح وضبط صرفيات المال وفق القوانين.
ليست الأزمة المالية السبب الدافع، لكنها قد تكون سببًا مهمًّا من أسباب عدة أدّت إلى انكشاف تجاوزات اعتبرها الرئيس أخطاء ووعد بتصحيحها، وقد فعل لاعتقاده بأنَّ "الخطأ هو الاستمرار بالخطأ"، أمّا التصويب فهو مسؤولية ثقيلة لا يقدر عليها إلا طاهر اليد والعقل والنفس والتفكير.
بدأ الرئيس بكبار موظفي الدولة (الوزراء) وكأنّه بذلك يوحي لكل وزير وكل مسؤول في مؤسسة رسمية يتقاضى موظفوها من المال العام الإقدام بكلِّ جرأة وشجاعة على ضبط مسار المال العام وإنفاقه وسبل صرفه وتنفيذ اللوائح والقوانين بحذافيرها، والانطلاق بحملة واسعة لتطهير النفوس الكبيرة قبل الصغيرة من عقلية (الهبش) من المال العام وشرعنته عبر تمريره بنفق إجراءات صُوَريّة تبدو نظامية، لكنَّها في الحقيقة إحدى وسائل الكسب غير المشروع.
أمّا قرار سيادته بإنهاء خدمات مستشاريه وإلغاء العقود والامتيازات والحقوق، فإنّنا لن نسمح لأنفسنا، بتسليط الضوء على أبعاده ومسبباته، وسنحتفظ بتقديراتنا ورؤيتنا، تاركين للأيام القادمة الكشف عن ذلك، وقد لا تكون بعيدة لكن ما يهمنا في هذا السياق أن الرئيس قد بدأ بنفسه، وقرّر إنهاء خدمات مستشاريه بصفتهم الاستشارية المرتبطة بالامتيازات المالية أيضًا، ما يعني توفير أموال كانت تصرف من خزينة الدولة لا تعود عليها بإنتاج أو فائدة تعادلها.
أمَّا الأمر الآخر فإنَّنا نعتقد أنّ الرئيس يريد أن يخبرنا أنّ مناقشة الأمور بروح الجماعة العارفة والمتخصّصة، وهذا إطار موجود حتما لدى كل مؤسّسة رسمية كفيل بإعطاء النتائج المرجوة التي قد يقدّمها مستشار هنا أو هناك، إذا اجتهد الجميع مدفوعين بانتمائهم الوطني، وحسهم المهني، وخبراتهم المفترضة، وإذا فكّر الجميع بمعنى العمل الصالح من أجل الشعب ومصالحه العليا.
نتوقّع انعكاسات فورية لقرارات الرئيس على مؤسسات الدولة، وتجسيد قاعدة ومعادلة الإنتاج مقابل الراتب، فلم يعد مقبولاً الترهل في المؤسسات، ولا اعتبار مجرّد وسائل وأدوات لكسب الرزق ولقمة العيش، أو فرصة يحتل فيها ضعيف الإحساس بالمسؤولية مقعد وطاولة المجتهد والمخلص والمبدع بالعمل، فإن كان الرئيس قد استغنى عن مستشاريه فإنَّ كلَّ مؤسسة أو وزارة قد اعتمدت مستشارًا ثبت أن مستوى أدائه أدنى من مستوى موظف عادي ولم يفد بما يقلع بالعمل ويتقدّم به نحو الأفضل، فمن الحق إنهاء خدماته واعتماد وتجسيد مبدأ التفكير الجمعي في المؤسسة، فالمدراء العامون مثلاً يفترض أن كلّ واحد منهم متخصّص في مجاله وله باع وخبرة فكيف ونحن نتحدّث عن معلومة باتت متوفّرة بكبسة زر.