بقلم: صقر أبو فخر
خاص مجلة "القدس" العدد 329 اب 2016

في سنة 2004 انطلقت "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" من مدينة رام الله. وفي 9/7/2005، أي في الذكرى الأولى لصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في شأن الجدار العازل الإسرائيلي، صدر نداء "الحملة العالمية لمقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS)، واختصارها بالعربية (م.س.ع)، فالميم تعني "مقاطعة" والسين تعني "سحب الاستثمارات"، والعين تعني "عقوبات". وقد تمكّنت "اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة" من عقد مؤتمرها الأول في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، وتجاوبت معها "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان" التي فضحت الشركات الداعمة بالأسماء، ودعت إلى مقاطعة تلك الشركات أمثال نستله وماكدونالدز وكوكاكولا ومقاهي ستارباكس، واستيه لودر وفيليب موريس وبيرغر كينغ وغيرها.
كان تقرير قناصل الدول الأوروبية في القدس ورام الله الذي صدر في سنة 2011 مفصلياً في سياق حملة المقاطعة، فقد دعا دول الاتحاد الأوروبي إلى التعامل مع القدس الشرقية باعتبارها العاصمة المقبلة لدولة فلسطين، وأوصى بمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية كالفنادق التي تستعملها الوفود الزائرة، وبالامتناع عن زيارة المواقع السياحية والأثرية التي يسيطر عليها المستوطنون، ومنع تصدير منتوجات المصانع الإسرائيلية في القدس إلى الدولة الأوروبية، ومنع المستوطنين المتطرفين في القدس من دخول دول الاتحاد الأوروبي، وكان لهذا التقرير أثر مهم في تطور عمل حملة المقاطعة، فقد أصدر الاتحاد الأوروبي في 30/6/2013 تعليمات للامتناع عن تمويل أو تعاون أو منح تسهيلات مالية أو دراسية أو بحثية أو أي جوائز لأي طرف إسرائيلي في المستوطنات، ودخلت تلك التعليمات حيز التنفيذ في 18/7/2013. وفي اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي (27 دولة قبل انسحاب بريطانيا) في كانون الثاني/ يناير 2013 جرى التأكيد على حظر استيراد منتوجات المستوطنات الإسرائيلية البالغة قيمتها نحو 400 مليون دولار سنوياً.
نتيجةً لحملة المقاطعة الدولية اتخذ صندوق المعاشات التقاعدية في سويسرا قراراً في آذار/ مارس 2010 بمقاطعة شركة "ألبيت" الإسرائيلية لدورها في بناء الجدار العازل، وببيع سنداته المالية في هذه الشركة. وفي أيار/ مايو 2010 باع بنك دويتشه الألماني جميع أسهمه في شركة "ألبيت"، وسحب صندوق التقاعد النرويجي استثماراته في تلك الشركة في أيلول/ سبتمبر 2010.
وفي هذا السياق بدأت بعض المصانع الإسرائيلية في الضفة الغربية مثل "صودا ستريم" و"بركان" نقلَ معداتها من المستوطنات إلى أماكن أخرى لتفادي قرار المفوضية الأوروبية وضع لاصقات على المنتوجات تشير إلى أماكن انتاجها. وهكذا صارت إسرائيل في وضع حرج جداً، فإذا عملت على وضع لاصقات تشير إلى أنَّ تلك البضائع منتَجة في إسرائيل، فإنّ ذلك الأمر يعتبر تزويراً وخداعاً، وإن التزمت قرار المفوضية الأوروبية، فهذا يعني حرمان منتوجات المستوطنات التصدير إلى أوروبا.
علاوة على ذلك تبنّى اتحاد معلّمي ايرلندا نداء المقاطعة، وأنهت جامعة جوهانسبيرغ في جنوب افريقيا علاقاتها الأكاديمية بجامعة دافيد بن غوريون، وانضمَّ عالم الفيزياء العبقري ستيفن هوكينغ إلى مؤيّدي المقاطعة. ولا ريب أنَّ حملة المقاطعة الدولية لإسرائيل ساهمت في إفقاد اسرائيل جزءاً مهمّاً من الرأي العام العالمي خصوصاً بعد عدوانها على لبنان في سنة 2006 وعدوانها على غزة في سنة 2008. لكن إرهاب الجماعات الإسلامية أعاقَ هذا المسار ولو جزئياً.

أداة نضالية
استندت حركة المقاطعة إلى القانون الدولي في عملها التنفيذي وإلى مبادئ حقوق الإنسان. وفي المرات التي نجحت فيها حركة المقاطعة في تطبيق بعض جوانب المقاطعة، فإنَّ ذلك كان يعني تطبيقاً عملياً للقانون الدولي. وعلى سبيل المثال، شدَّدت حركة المقاطعة على أنَّ إسرائيل دولة فصل عنصري (أبارتهايد). والفصل العنصري يعتبر، بحسب القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية. لذلك كانت إجراءاتها المتعدِّدة الوجوه لمعاقبة اسرائيل شأناً منطقياً في سياق هذا الميدان. وقد اكتسبت حركة المقاطعة الدولية BDS حضوراً دولياً مهماً، وباتت تمثّل النشاط الفلسطيني الأكثر نجاحاً على المستوى الدولي، وتمكّنت من التأثير في وعي كثيرين من الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم أوروبيي الثقافة، أو يشعرون بأنهم ينتمون إلى أوروبا. ومهما يكن الأمر، فقد تحوَّلت المقاطعة أداة نضالية في أيدي الفلسطينيين، وشكلاً مستحدَثاً من أشكال التضامن الأُمَمي مع الشعب الفلسطيني، مع أنها لا تعتبر منظمة مدنية NGO،  ولا تعتمد على مموّلين محدَّدين ذوي أهداف سياسية. صحيحٌ أنَّ حركة المقاطعة لن تستطيع تغيير الواقع السياسي، إلا أنها تساهم في دعم نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم. وقد آذت حركة المقاطعة إسرائيل بقوة، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، الأمر الذي جعل الكنيست يصوغ قانوناً يجرِّم المقاطعة، ويجرِّم أي شخص يشارك في حملاتها، أي أنَّ في إمكان السلطات الإسرائيلية تقديم كل مَن يشارك في نشاط المقاطعة إلى المحاكمة. وهذا الأمر ينطبق على فلسطينيي الـ1948 وسكان القدس بالدرجة الأولى. أمَّا الأجانب فيمكن حرمانهم الدخول إلى إسرائيل. وفي الولايات المتحدة الأميركية حاول أنصار إسرائيل صوغ قانون يجرِّم المقاطعة، فيحجب عن أي منظمة مدنية أو مؤسسة تؤيّد  BDSالتمويل، ويتم إدراجها في اللوائح السود. لكن هذا الأمر يواجه مصاعب جمّة منها أن تجريم المقاطعة يعني تجريم حرية الرأي.
وفي خضم هذه التطورات أعلنت الحكومة الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 2013 أنَّ حركة المقاطعة باتت خطراً استراتيجياً يمكن أن يتطوّر ليصبح خطراً وجودياً. ووصف شمعون المقاطعة بأنَّها شكل من أشكال الحرب غايتها نزع الشرعية عن إسرائيل (8/6/2015). واللافت، مع الأسف، أنَّ حركة المقاطعة التي راحت تتّسع بالتدريج في الميدان الدولي كان يقابلها ازدياد روابط إسرائيل الاقتصادية والعملية والأكاديمية والثقافية والسياسية والعسكرية بدول إفريقيا وآسيا بما في ذلك بعض الدول العربية. والمعروف أنَّ كثيراً من الشركات الداعمة لإسرائيل ما زالت تعمل في عدد من الدول العربية، ومن الضروري إطلاق حملة لإقصاء هذه الشركات عن الأسواق العربية، ومنعها من التقدُّم إلى المناقصات، وتوقيع العقود التجارية. وعلى سبيل المثال، ثمَّة شركتان فرنسيّتان تنفّذان مشروع القطار الإسرائيلي الذي سيربط مدينة القدس بالمستعمرات المحيطة بها، وقد رسا عليهما عقد إنشاء سكة حديد تربط مدينة مكة بالمدينة المنورة.
والشركتان هما فيولا وألستوم. لكن شركة فيولا باعت أسهمها في مشروع القدس تفادياً لأي أضرار قد تلحق بها في الدول العربية، أما ألستوم فما برحت ماضية في أعمالها.

المقاطعة مقاومة
المقاطعة ومقاومة التطبيع تندرجان في سياق سياسي واحد. وكانت الحاجة إلى رفض التطبيع ومقاومته قد نشأت بعد أن وقّعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل في سنة 1979. وهذه المعاهدة، علاوة على اتفاق أوسلو في سنة 1993 واتفاق وادي عربة في سنة 1994، أفسحت في المجال لتأسيس علاقات متشعّبة بإسرائيل على المستوى السياسي (سفارات)، وعلى المستوى الاقتصادي (سياحة وتبادل تجاري) الأمر الذي جعل المجتمع المدني العربي يتولّى بنفسه مهمة مقاومة التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك لم تتبلور حركة المقاطعة إلا في سنة 2004 فصاعداً. والتطبيع يعني، في أبسط صُوَره، مشاركة الإسرائيليين في الحقول الثقافية والاقتصادية والسياسية، أو في ورش عمل أو مؤتمرات ثُنائية خصوصاً إذا كان هؤلاء الإسرائيليون ممَّن لا يتبنون الحقوق الوطنية الفلسطينية. أمّا رفض التطبيع فيعني، في أبسط صُوَره أيضاً، عدم الظهور في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعدم التعاون مع المؤسسات الأكاديمية أو الأمنية أو السياسية الإسرائيلية، ورفض الرواية الصهيونية عن النكبة الفلسطينية. ولا ريب أنَّ رفض التطبيع لا ينطبق على فلسطينيي الـ1948 لأنَّ المواطن في تلك الديار مضطّر في كل يوم إلى التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية كالمدارس والجامعات والمستشفيات والوظائف... الخ. وينطبق هذا الأمر جزئياً على الفلسطينيين في الضفة الغربية المضطّرين قسراً إلى التعامل مع السلطات المحتلة في الشؤون اليومية.
وبهذا المعنى، فإن مقاومة التطبيع هي مهمة عربية وأُمَمية بالدرجة الأولى. والمقاطعة لا تشمل الإسرائيليين الذين يقفون إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني وهم كثر. غير أن المشكلة تكمن في "الجلبيين العرب" الذين نشتق هذه الصفة لهم من "أحمد الجلبي" قيدوم الاحتلال الأميركي للعراق، وهؤلاء صاروا اليوم مثل عدس الشام على غرار مثال الأولسي وانتفاض قنبر وكنعان مكيّة الذين شكّلوا رأس حربة لمجموعة كثيرة العدد من "الجلبيين الجدد" من طراز كمال اللبواني وفريد الغادري وأنور عشقي وزياد الدويري ونجم والي وبوعلام صنصال ونادية الفاني وفرحات مهني وجان بيار ليدو وعزالدين بن سويح. ولهؤلاء العاشقين الجدد المغرمين بالإسرائيليين نكتفي بالقول: إذا كنتم مصرّين على ما أنتم عليه، فعلى الأقل امتنعوا عن القبلات والابتسامات البلهاء.