افتتاحيّة مجلّة القدس- العدد 355|
 إنَّ قرارات الرئيس محمود عباس رئيس دولة فلسطين بوقف العمل بالاتفاقات الموقَّعة مع دولة الاحتلال، شكَّلت حلقة مفصلية في العمل الوطني الفلسطيني، خاصة في المناطق المحتلة. وكانت البداية النظرية قد تمّت في مقررات المجلس المركزي الفلسطيني العام 2015، وتكررت في المجلس الوطني، والمركزي مرةً أخرى. الشارع الفلسطيني كان متلهّفاً أن يقرأ التفاصيل العملية لمثل هذه القرارات التي وُضعت على نار هادئة نظراً لأهميتها.
الكيان الصهيوني الذي غرق في مشروع ترامب نتنياهو التدميري والتصفوي، كان يراقب بدقة وحذر التصريحات التي تصدر عن القيادات الفلسطينية، ابتداءً من الرئاسة، مروراً باللجنتين التنفيذية والمركزية، والحكومة الفلسطينية التي شقَّت طريقها بقوة وتميُّزٍ بقيادة الدكتور محمد اشتية.
الأوساط الصهيونية اهتمّت بالتصريحات التي أصدرها الدكتور محمد اشتية والتي جاء فيها: "إذا لم يتم التوصل إلى حل يستند على مبدأ الدولتين فإنَّ إسرائيل ستعاني من موت ديموغرافي" وكان الدكتور اشتية يشير إلى أن هناك أَغلبية عربية فلسطينية بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وهي تؤكد أن هناك 6.8 مليون عربي فلسطيني، مقابل 6.6 مليون إسرائيلي. وهذا ما يعني أنّ القنبلة الديموغرافية إذا ما تفجَّرت، فهي ستكون لصالح الأغلبية الفلسطينية.
وهذا الخلل في التوازن الديموغرافي سبَّب وما يزال الأزمة الحادة الآنيَّة، والمستقبلية للاحتلال من انفجار الأوضاع في المناطق العربية، التي تمارس عليها الحكومةُ الصهيونية كافة أشكال السياسات العنصرية، والهادفة طبعاً إلى حسم الصراع لصالح هذا المجتمع الصهيوني العنصري، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
إنَّ الأغلبية الفلسطينية المنتشرة في الأراضي العربية الفلسطينية كافّةً، والتي تتميَّز بأرضها التاريخية رغم المجازر، ورغم القصف والتدمير، ورغم الاعتقالات والاغتيالات الميدانية، فهي تتميَّز بجرأتها وقدرتها على المواجهات في القدس ومحيطها، وفي كافة مناطق الضفة والقطاع.
إضافة إلى أنَّ الأجيال الشابة واصلت دورها الصدامي وبشراسة ضد الاحتلال، وجنوده، ومستوطنيه، وسجَّلوا عملياتٍ هجوميةً، راقية، وباسلة، ومميزة رغم كل الظروف الأمنية الخانقة، وأكدوا أنَّ بمقدورهم الوصول إلى بيوت المستوطنين، ومواقع العسكريين، واصطياد الصهاينة. فالرسالة وصلت للقيادة الصهيونية، وهي اليوم أمام خيارات صعبة، وعليها أن تختار واحداً من أمرين؛ فإمَّا أن تلتزم بقرارات الشرعية الدولية التي تنص على إقامة حل الدولتين، والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967، وأنَّ القدس هي عاصمة دولة فلسطين الأبدية، وتنفيذ القرار 194 الذي ينص على حق العودة والتعويض. وأما أن يبقى الكيان الصهيوني راكباً رأسه، متجاهلاً حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، ومصرّاً على تدمير حقوق اللاجئين الفلسطينيين، والسيطرة الصهيونية على أراضيهم، تنفيذاً لقرار الكنيست بإقامة الدولة القومية اليهودية على الأراضي الفلسطينية، وهو بذلك كمن يحفر قبره بيده.
نحن الشعبَ الفلسطيني، عاصرنا العدوان الصهيوني المتواصل منذ العام 1897، وعشنا كافة المراحل السابقة، ولم نستسلم منذ وعد بلفور البريطاني، وسايكس بيكو، والانتداب الجائر والأسود، الذي أُسس لإيجاد دولة لهؤلاء الصهاينة، الذين تمَّ تجميعهم من شتى بلاد العالم، بتشجيع من الحركة الصهيونية، والانتداب البريطاني، ليقيموا دولة على أرضنا، وعلى أنقاض دولتنا.
تجربة صراعنا مع هذا الكيان العنصري، والتي استمرت ما يزيد على سبعين عاماً، أثبتت واقعياً، وعلمياً، وموضوعياً، وتاريخياً أن شعبنا لا يستسلم، ولا يرفع الراية البيضاء، ولن ينسى حقوقه على أرضه مهما طال الصراع.
ولأنَّ الموضوع بالغ الأهمية ومتشعب، والنقاش حوله لن يهدأ، وستكثر وتتعد    د الاجتهادات، حسب الخلفيات السياسية والتنظيمية، فإنني سأذكر مجموعة نقاط جوهرية لها علاقة بمستقبل البحث، والتعاطي مع هذا الموضوع:
أولاً: في البداية جميع الأطراف الفلسطينية عبَّرت عن موافقتها وسعادتها، واعتبرتها خطوة انتقالية مهمة على طريق التخلص من الاحتلال، ولكن بعض هذه الأطراف بدأ يعيد النظر في رأيه السابق، ويطرح العديد من علامات الاستفهام، والشكوك حول مصداقية التنفيذ، وهذه المتغيرات ترافقت مع تباطؤ خطوات المصالحة، وفتور تجسيد الوحدة الوطنية، ممَّا يوحي بوجود نيات لعدم التعاون كمنظومة فلسطينية واحدة، وهذه عقدة نتمنى أن يتم حلُّها في المهد، قبل أن تتسمم الأجواء. وحتى لا تصبح هذه العقدة، هي العقدة التي تكسر منشار النجار، ويدفع شعبنا الثمن غالياً.
ثانياً: على كافة الأطراف التي كانت تنادي بوقف التعامل مع قرارات اتفاق أوسلو، وقد أصبح هذا المطلب فلسطينياً وطنياً جامعاً، ترجمه الرئيس أبو مازن عملياً، بوقف العمل بالاتفاقات الموقَّعة، وشكَّل لجنة فلسطينية لوضع آليات التنفيذ، وقد باشرت عملها. هذا المسار الجديد المعقَّد والمهم في الوقت ذاته، يحتاج من الجميع إلى التركيز والتدقيق، والتعاون لتنفيذ الخطط المرسومة، والآليات الموضوعة، على أرضية أن الكيان الصهيوني هو عدونا جميعاً، وأن التخلص من الاحتلال هو هدفنا الأساس، وأنَّ حماية شعبنا هي واجبنا المقدس، وأن الدفاع عن مقدساتنا هي غايتنا السامية. وبالتالي فإن تنفيذ قرارات الرئيس مُلزِم، ولكنْ علينا أن ندرك بأنَّ الأرض التي سنسير عليها مزروعة بالألغام، وأن العقبات لها أول وليس لها آخر، لأننا بنظر الصهاينة دخلنا في المحرمات، وأننا نسعى لإحداث المتغيرات والمفاجآت. ولذلك يجب أن نرحم بعضنا أولاً، وأن نصبَّ نقدنا وغضبنا، ونيران حقدنا على عدونا الذي يدِّنس مقدساتنا. فمسيرتنا اليوم تحتاج إلى وقت، كما تحتاج إلى رَويَّة، وإلى تفاهم وثقة متبادلة، ودراسة متأنية من قبل اللجان المشكَّلة، لأن القضايا المطروحة لها أبعاد تكتيكية، وأيضاً لها أبعاد استراتيجية، وهذا يحتاج إلى الخبرة، والتجربة، والتشاور الدائم، وتعزيز الثقة حتى نتجاوز القطوع الصعب، لأنَّ الصراع سيكون على مدار الساعة.
ثالثاً: نحن بعد هذه القرارات الرئاسية التي رحَّب بها الجميع، وعلى ضوء الممارسة العملية، وتقييم التجارب، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن قضية إلى قضية، ومحاولة تفكيك التعقيدات بما ينسجم مع قناعاتنا السياسية، والوطنية، من أجل أن لا نغرق في مستنقعات التعقيدات، فإنّه يجب علينا أن نضع دائماً في حساباتنا الجماعية، أننا تحت الاحتلال، ويجب أن ننتقل إلى الاستقلال، وأنَّ نيل الحرية يستوجب استخدام كل الوسائل، والأساليب التي تجعل عدونا ينصاعُ لإرادة شعبنا المكافح.
رابعاً: يجب أن نستثمر، ونركِّز على القرار الواضح الذي أعلنه الرئيس أبو مازن، بوقف التعامل مع القرارات الإسرائيلية، وهذا يعني أننا أمام الامتحان الصعب، في منعطف تاريخي بالغ  التعقيد، تتبلور فيه صيغة تفاهم صهيونية تضم ترامب ونتنياهو، وتستهدف القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها، وهذا يتطلَّبُ منّا قمةَ التزامِ الوعي الوطني والسياسي، والانتماء الفلسطيني في عملية عبور حقول الألغام الموضوعة أمامنا. فهناك المعبر الأمني الذي يهيمن عليه الجانب الصهيوني ويتحكم به. وهناك المعبر الاقتصادي الذي استحوذ عليه العدو المحتل منذ البداية، وهو الذي يحكم ويرسم فيه متجاوزاً كلَّ الاتفاقات. وهناك المعبر العسكري حيث قواته تنتشر في كل زاوية من أرض الوطن، وجنوده يطلقون الرصاص على الأطفال والنساء، والمسنين، والشباب، وبشكل حاقد وعنصري. وهناك المعبر الأمني حيث أجهزته الأمنية؛ الموساد، والشاباك، والشين بيت، والمخابرات، والمستعربين، وكلهم يرصدون حركاتنا، وسكناتنا، معتمدين على الكاميرات المنتشرة في كل الوطن، وقد أصبحت جميعها مرتبطة مركزياً، وتحت السيطرة ويعرفون ويراقبون من خلالها كل صغيرة وكبيرة.
أضف إلى ذلك المعبر السياسي، حيث الصراع على أشده في كل الميادين السياسية، والمحافل الدولية، وقد اتضح لنا أن العديد من الدول بدأت تبحث عن مصالحها وليس عن مبادئها. ولا ننسى المعبر القانوني، والذي نجحنا في الكثير من جولاته، إلاَّ أنَّ وقوف واشنطن إلى جانب تل أبيب في حربها علينا، أسهم في إخضاع وتطويع الكثير من القرارات القانونية للرغبات الصهيونية على حساب عدالة القضية الفلسطينية.
هذه المعابر وغيرها، وإمكانية الانفكاك عن الاحتلال في ظل هذه التعقيدات ستفتح أبواب الصراع بكل تفاصيلها، وكل أبعادها، لأنَّ من صمَّم على الدخول في معركة التحدي المصيرية، عليه أن يتوقع تحويل الأراضي الفلسطينية إلى ساحات مواجهةٍ وحسمٍ يومية، وشعارنا في المواجهة إما أن نكون أحراراً على أرضنا، أو شهداء تحت التراب.
خامساً: مهما كانت الصعوبات والمخاطر المتوقعة فليس أمامنا من خيار آخر سوى الدخول بقوة في معركة التغيير والمعالجة، والتحدي مهما كانت التكاليف، لأنّ القرار الحالي جاء متأخراً، وليس مقبولاً المزيد من المماطلة. وهذا يعني المسارعة إلى وضع النقاط على الحروف، وإخراج السيوف من أغمادها، وإعطاء التعليمات الواضحة إلى كافة المؤسسات المعنية، واللجان المكلَّفة، وإعلان النفير العام على كل الأصعدة. وعلينا أن لا ننظر إلى الوراء، لأنَّ الثورات العريقة والأصيلة هي القادرة على التغيير بما تقتضيه ظروف الصراع، ونحن علينا أن لا نأسَف على مغادرة اتفاق أوسلو التعاقدي، لأنه ليس جزءاً من استراتيجيتنا، وإنّما هو خطوة مرحلية تكتيكية لنقلنا من الاحتلال إلى الاستقلال، وإقامة الدولة. إلاَّ أنَّ انقلاب الكيان الصهيوني المدعوم من واشنطن عسكرياً، واقتصادياً، وأمنياً، وسياسياً، على كافة مضامين اتفاق أوسلو، وتفريغه من مضمونه، وتخلي الأطراف كافّةً التي وقَّعت عليه عن مسؤولياتها كجهات دولية، أوصلنا إلى ما نحن فيه من أزمة حادة ومصيرية.
ولأنَّ الاستسلام والخضوع والتراجع عن الأهداف ممنوعٌ في علم الثورات، التي تنطلق أساساً من أجل حرية شعوبها، فنحن بالنسبة لنا كشعب فلسطيني، مضى على صراعه مع الصهيونية ما يزيد على مئة عام محرَّم على ثورته التي أقسمت القسم، وأعطت العهد، أن تتوقّف عن كفاحها مهما كانت المعيقات، فالقيادة الفلسطينية اليوم محط أنظار الأمة العربية، وهي تشكل الأمل المرتجى، ورغم الأعباء الثقيلة الواقعة على عاتقنا، علينا أن نتحمَّل مسؤولياتنا كاملة، وأن تبقى الهامةُ مرفوعة، وفلسطين المباركة تنتظرنا، وتبني علينا آمالها.
إنَّ الجانب الصهيوني المحتل لم يُظهر اهتماماً رسمياً وإعلامياً ملفتاً بقرار القيادة الفلسطينية الأخير الذي انشغلت به الساحة الفلسطينية، والعواصم العربية، والدول صاحبة القرار المعنية بالصراع القائم على الأراضي الفلسطينية، لأنه كان يريد أن يسمع الصراخ الفلسطيني مرتفعاً.
القيادة الفلسطينية التي اختارت المسار الوطني الجديد، بعد نقاش عميق، وتقييم واقعي، وجرأة في التحدي، ومغادرة مربَّع أوسلو إلى واقع جديد، تتوحَّد فيه الصفوف، وتلتف الساعد على الساعد، وتتوجَّه فيه البنادق نحو هدف واحد، وتندفع فيه الجماهير بالزخم النضالي والثوري، والرايات الوطنية ترفرف فوق الجموع الغاضية، وهي تطهِّر الساحات والمقدسات من دنس الاحتلال، معلنةً بدايةَ عهدٍ جديد، ومنذرةً بالوعيد، فنحن من جيل تربَّى في أحضان الرمز ياسر عرفات لا يعرف المذلة، ولا يقبل بالهوان والاستسلام، ونحن لها مهما كانت الصعاب، فالثورة مستمرة حتى النصر.