ماذا حدث لمجتمعنا؟! فقد طغت أخبار الحوادث والجريمة والقتل أثناء الشجار على أخبار الصمود الشعبي والرسمي وأخبار السياسة والمستجدات في الوطن!

هل تختبئ في ثنايا مجتمعنا وفي بواطنه ظواهر سلبية وأمراض اجتماعية ونفسية، وعندما جدت فرصة لتجاوز قشرة الضوابط الأخلاقية والأمنية والقانونية خرجت كبركان يقذف حممه، حتى أن المتابع من بعيد ليعتقد أن السلم والأمن المجتمعي صعب المنال مثله في ذلك كصعوبة نيل السلام والأمن والاستقرار السياسي، لكن اذا كان الأمر الآخر مرتبطا بقدرة القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) فيما يرتبط الأمر الأول بقدرتنا الذاتية على أحداث التغيير المطلوب في المجتمع بما يضمن انتقاله إلى حالة الدولة القابلة للاستمرار والمضي على سكة القانون، ولكن ليس قبل رفع قواعد السلوك الحضاري المأخوذ من روح القيم الأخلاقية والثقافة الدينية التي تعني السلام بين الإنسان مع نفسه ومع الآخرين أولاً وأخيرًا.

نخشى من ارتباط منسوب الجريمة المرتفع بعوامل منظمة، تهيئها جهات معنية بإحداث شروخ وتمزقات في النسيج الاجتماعي لإحداث حالة من الخوف وفقدان الأمل، وصولا إلى هدف إيصال المواطن لمرحلة فقد الثقة بمنظومة السلطة الأمنية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل ذلك كمقدمة لمرحلة انفلات أمني يصبح كل شيء مباحا بما فيه أرواح الناس وممتلكاتهم، إلى لحظة يصبح الخلاص مطلب الناس حتى لو كان على يد المحتلين أو عملائهم أو المخطط لهم استلام زمام الأمور والسيطرة عليها، تماما كما حدث في سنوات ما قبل انقلاب حماس في قطاع غزة، حتى أن الكثير ممن كانوا على اختلاف جذري مع حماس باعتبارها جماعة إخوانية (قح) وجد في أسلوب قادتها القمعي العنفي وعقليتهم الدكتاتورية الشر الذي لا بد منه لا يقاف حالة التدهور – حسب ظن هؤلاء – حيث عملت حماس على تضخيمها تمهيدا للانقضاض على السلطة بالقوة المسلحة، وإظهار قدرتها على ضبط الفلتان، وهو ما يشكل حتى اللحظة المادة الدسمة في دعاية حماس الإعلامية!

يحق لنا دعوة المسؤولين في البحث الجنائي للذهاب إلى ابعد نقطة يمكنهم عندها اكتشاف دوافع وأسباب المتهمين، والتبحر في البحث وتوسيع دوائر التحقيق، فلعلهم يكتشفون أن العصبية القبلية والعشائرية، والعادات والتقاليد السلبية الموروثة والبيئة المجتمعية وأنماط التربية الأسرية، وكذلك الأحوال المادية السيئة ليست وحدها العوامل المسببة للجرائم، فالمعنيون بارتفاع وتيرة الجريمة، بالتوازي مع توتير الأجواء السياسية، والنفخ في حالات فساد إداري هنا وهناك وتضخيمها، وكأنها القاعدة، والنزاهة هي الشذوذ، يعرفون مايريدون، ويدركون ما يفعلون، فمهمة هؤلاء اخطر من مهمة الجواسيس المكلفين بمهمات أمنية وحسب، لذا فانهم على درجة عالية من الدقة والاتقان، بحيث يصعب على باحث جنائي عادي اكتشاف بصماتهم في الجرائم.

لا يجوز القول إنّنا مجتمع مثالي، وأن الأعداء والخصوم ينتهزون الفرص لاختراقنا، فنحن كغيرنا من المجتمعات العربية، ما زلنا في طور التحرر والنمو، لكن بما أننا نواجه خطرًا وجوديًّا، ونعيش في مواجهة مع غزاة محتلين يحاولون سلبنا ليس أرضنا وحسب، بل إنسانيتنا وثقافتنا وسلوكنا وقيمنا، فانه ليس مقبولا حلول ظاهرة الخصومة المجتمعية والعنف والجريمة، مكان السلم الأهلي، والحوار والاطمئنان تحت مظلة القانون، وعلينا التذكر دائما أن منظومة الاحتلال ترصد مشاكلنا الاجتماعية كما ترصد مشاكلنا السياسية، وتفعل المستحيل لتحقيق اختراقات في قواعد المجتمع الفلسطيني، لأن ذلك يسهل عملية تعقيد المشاكل السياسية، ما يسهل عملية الانهيار (الهدف) رأسيا، وبمعنى أوضح، تكون القواعد الاجتماعية عاجزة عن تحمل اي ضغط، ما يؤدي الى تشققات افقية، اي تفكك (المجتمع) وانفراط عقده!

صار لازمًا إعادة النظر بمنظومتنا التربوية، ابتداء من العائلة مرورًا بالمدرسة، وصولا إلى تثبيت السلوك الوطني بكل عناوينه الاجتماعية قبل السياسية ليكون الدرس رقم واحد للمنتسبين في الأطر السياسية.

بات لازمًا الانتقال إلى مرحلة الدقة والحزم في تطبيق القانون، بالتوازي مع تطوير أدوات نشر ثقافة التسامح والمحبة والسلام، وإلغاء منهج النفخ الحاصل في الشخصية الفردية، واستبداله بمنهج الثقة بالروح الجماعية.

نحتاج إلى ورشة عمل مغلقة تضم خبراء في علوم المجتمع، ومتخصصين في علوم النفس والسلوك، يقدمون للمؤسستين السياسية والأمنية والقضائية خلاصة أبحاثهم، لعلنا اذا مزجناها بما توفر لدى الأجهزة الأمنية من ملفات ومعلومات نستطيع وضع خطة لتحصين مجتمعنا، الذي بدونه يصعب الاستمرار بالصمود وتحقيق الأهداف السياسية، فنحن نريد الدولة المستقلة كتعبير عن أهليتنا الحضارية المدنية كمجتمع إنساني وشعب ولا نريد أن نكون نسخة من دول تنخرها الصراعات الداخلية التي تبدو بظاهرها سياسية لكنها في الحقيقة أمراض اجتماعية غذّتها قوى خارجية وأحزاب داخلية لضمان هيمنتها وتحكمها وديمومة مصالحها.