«يا بحر كن جميلاً رحيماً و لا تكن قاسياً كالطغاة»، هكذا يرسل ابو لؤي دعاءه الى أمواج البحر لا الى السماء وهو ينظر الى البعيد. يستمر بالحديث كمن يحدث نفسه دون أن يلتفت الى الأصوات التي حوله «إبنتي و حفيدتي الآن في عرض البحر تتجهان الى ايطاليا، إنها ابنتي الوحيدة.. تشردت العائلة» يقول وهو لا يزال يرسل نظرة ساهمة الى الأفق

متولي ابو ناصر

خبر متفرق في زاوية جريدة: غرق عشرات الفلسطينيين والسوريين في سفينة غير شرعية قبالة السواحل الليبية.

 خبر آخر مشابه قبالة السواحل المصرية. خبر ثالث يتحدث عن غرق عبارة اخرى قبالة سواحل ايطاليا. كانما البحر اصبح مقبرة المخيم.

نسأل بعض الاصدقاء الناجين عن رحلات الموت تلك، فيخبرونا انه واقع كل فلسطينيي سوريا ممن لا تساعدهم أوضاعهم المادية على الهروب الآمن، فيلجأون الى الطرق الأرخص. يحدثنا رائد عمايري ابن مخيم اليرموك، وهو من الذين استطاعوا الوصول الى شواطئ أوروبا «لا يوجد مال كاف لشراء فيزا أو ركوب طائرة بسبب ارتفاع السعر الذي قد يصل الى عشرة آلاف دولار عن العائلة».

ويضيف: «لم يكن خيار البحر جيدا، ولكنه مرغوب لسببين: التكلفة الرخيصة، والاطمئنان على المبلغ المدفوع، حيث ان الدفع يتم عند الوصول الى الشواطئ الايطالية عن طريق شخص موثوق في مصر. والمبلغ يراوح بين 3200 و 3800 دولار».

تبدأ رحلة الموت كما يقول، باتصال المهرب قبل الرحلة بيوم، حيث يتفق معه على مكان «اللقاء ليلا. يتم النقل بالباصات، زمان كانت الرحلة لا تتجاوز الخمسين شخصا مع طاقم السفينة، لكن بعد ثورة 30 يونيو بمصر وخوف السوريين من السلطة الجديدة يلّي صارت تهدد السوريين والفلسطينيين، صار المهرب ينقل أعدادا كبيرة تصل الى 250 شخصا».

يضيف الشاب «ينقل المهاجرون الى منطقة تسمى الرشيد بالقرب من الاسكندرية، وأخرى تسمى العجمي وهي مناطق تخضع لبلطجية يقومون بتأمين ساحل البحر. يوضع المهاجرون في مكان يشبه الخرابة، ويطلب اليهم الانتظار بصمت، الى أن «يؤمن» نقلهم الى القوارب».

 ويتابع «بيبدا الخطر من لما يبلشوا يطلعوا الركاب بالقوارب. اول شي بيطلعوهم بقوارب صغيرة كل 15 مع بعض، ثم ينقلوا الى قارب كبير ليوصلهم الى البابور الراسي خارج المياه الإقليمية المصرية. هاد بيستغرق ليوصل شي ثلاث ساعات. وممكن إذا تعطل أو صار شي أثناء الرحلة يصير كارثة كبيرة، مثل ما صار مع بنات حسين سلامه لما غرقت السفينة وماتوا كلهم».

حسنا، وماذا بعد؟

يقول «بعد نقل الناس، بيربطوا المركب بالبابور. طبعا البابور مو مخصص لنقل أشخاص، فالناس بتكون فوق بعض لدرجة انهم بيصيروا يتقيأوا على بعض بسبب دوار البحر! طبعا لا يوجد ماء للغسيل لان الماء الحلوة للشرب فقط. تقيؤ ووقت طويل والناس نايمه فوق بعض واكتر شي الأشخاص المسنين والأطفال. هاي الحالة تبقى من 3 الى 4 أيام ببلش دوار البحر يروح. وإذا اعتبرنا الرحلة سارت بانتظام بدون ما يتعطل البابور باليوم السابع، المفروض يوصلوا على بعد 100ميل من الشواطئ المطلوبة.

وبعدين بتبلش الرحله الأخطر: البابور ما بفوت على المياه الإقليمية الإيطالية، فبينزلوا الركاب على المركب المقطور خلفهم. وللاسف هذا المركب غير مهيأ للسفر كل هذه المسافة بالبحر، اي 15 الى 20 ساعة. وغالبا ما يتعطل نظرا للاعداد الهائلة على متنه، وهنا الكارثة! لأنو طول ما هو المركب شغال، نسبة الخطر قليلة. لكن بس يتعطل، نسبة الخطر كبيرة لأنو أي حركة من قبل المسافرين أو أي موجه عالية، ممكن تقلب الكل بالبحر. طبعا هاي لحظات رهيبة بتكون، خاصة يلي بكون طالع مع أولادو وما طالع بإيدو يساوي إشي»!

لكن القلق الأول هو الخروج من المياه الإقليمية المصرية بخير، وهذا ما حدث فعلاً مع أكثر من زورق.

تحاصرك الزوارق الحربية من كل اتجاه فتقرأ الفاتحة على روحك وأرواح من معك، تسمع من مكبرات الصوت توقفوا، توقفوا.. فتقول في نفسك: الحمد لله إنهم مصريون، تخرج الطلقة الأولى والثانية، ويصاب أحد الفارين من الموت والجوع في سوريا ويصرخ الجميع وهم يرفعون أطفالهم عالياً كمن يشهر براءته، يصيحون: نحن فلسطينيون وسوريون هاربون ولسنا مهربين. يتكرر المشهد مع من يسمون انفسهم ثوار ليبيا، والفعل واحد: لن تمروا! صلية و اتنتين وثلاثة. يموت العشرات برصاص أخوة العروبة والدم واللغة والدين، ويغرق من لا يعرف السباحة، ويعتقل العشرات من النساء والأطفال والرجال».

وفي مكان آخر على أرض الكنانة، يقول احمد درباس ابن اليرموك وأحد الناجين من مراكب الموت المهاجرة الى بلاد «العم سام» لحظة خروجه من سجن الأخ المصري «يا جماعة الخير انا من البارحة اترحلت من مصر الى سوريا، نحنا يللي كنا غرقانين بالإسكندرية.

 من حوالي12 يوم كنا محبوسين بسجن إسمو «الدخيلة» بالإسكندرية، وفي قسم ثاني منا، كانوا بسجن «كرموش» . كنا 45 واحد، اولا حطونا بعنبر مساحته اربعة امتار باربعة على ما أظن، رجلينا ما كنا نقدر نفردهم. صرنا ندفع دولارات للضباط منشان يفتحولنا الباب، أنا واحد من الناس اللي بعد معاناة يومين، أعطيت ضابطا «شقيقا» 200 دولار، لماذا؟ اقسم بالله بس منشان تلفون أحكيه مع أمي واطمّنها انو أنا عايش! واحد معانا دفع 150 يورو منشان يطول موبايلو من الأمانات ويطمّن اهلو انو عايش! انتبهوا لكلمة «أمانات»، كنا محبوسين حبس رسمي كأننا مجرمين، مذلولين مذلة اقسم بربي تمنينا معها لو انو متنا بالبحر! المهم صرنا كل يوم نجمعلهم 300 دولار من بعضنا منشان يفتحوا الباب، ونقدر ننام بالممر مش فوق بعضنا».

«وكان بيع الممنوعات يحصل علنا من قبل الضباط للمساجين المصريين! اجانا الفرج وحجزنا للسفر، طبعا حق التذكرة اخدو مننا 230 دولار. قبل سفرنا بأربع ساعات قلنالهم «اعطونا جوالاتنا» ما ردوا. خلوها لآخر نصف ساعة، ولما طلعوا الموبايلات تبين انو الموجود منها 3 فقط من اصل 17، وما تبقى اشي شاسيهات واشي شاشتو مكسورة. طبعا عملنا مشكلة، فقالولنا معكن نص ساعة علشان نعرف وين جوالاتكم، والمشكلة أنو طبعا ما كان في وقت ننتظر وإلا بروح علينا الحجز! وهيك ما كان قدامنا الا انو نسافر! وتم تسفيرنا مع حراسة مشددة جدا يعني تقولوش الا انو إرهابيين».

اما احمد موسى فقد أقام فيمصر الى ان بدأ التحريض على الفلسطيني والسوري في ظل ثورة 30 يونيو، فما كان منه إلا أن انتقل الى ليبيا، لكن الوضع كان هناك أسوأ، فقرر الهجرة الى ايطاليا تهريبا. لكن الأمن الليبي اطلق بدون سؤال النار على السفينة التي كان على متنها 400 فار و.. أغرقها.

هكذا، بقي أحمد اليوم في مالطا، وحيدا. يسأل الرجل: «من قتل طفلي الرضيع؟ من قتل أمي وزوجتي؟ البحر، أم النظام السوري؟ أخوة العروبة أم سلطة فلسطينية فاسدة تختبئ وراء شعار الحياد؟ سلطة ترسل سفيرها ليعطي الوعود بأنها سوف تساعد الناس، لكنها تتخاذل بمجرد انتهاء التصوير؟».

«مأمون» مدير لإحدى مدارس الأونروا في مخيم اليرموك ووضعه المادي جيد الى حد ما، وهو من اولئك الذين أرجعتهم الحكومة المصرية مع عائلته الى سوريا بعد ان فشلوا بالهجرة تهريبا من هناك. يقول: «سوف نعاود محاولة الخروج الى أوروبا، أو أي بلد يحترم وجودي كإنسان، لا يوجد خيارات أخرى والموضوع ليس ترفا، ولا هو فرصة يجب استغلالها، هاي الناس يمكن تموت على الطريق، وفي ناس ماتت أطفالها، بس بقول الواحد موتة وحدة أحسن من الموت كل يوم، أولادنا مرضوا من القصف و أصوات الاشتباكات والجوع، والوضع أصبح لا يطاق، سوف ننتظر حتى ينتهي فصل الشتاء ونعيدها.