روان الباش

من أين أنتِ؟ كان السؤال. المكان: قاعة الدرس المخصص للغة الاسبانية. موضوع الدرس: كيف تقول من أين أنت؟. ما هي جنسيتك؟. وما هو موطنك؟

بدأت الآنسة روزاريو الدرس بهذا السؤال: من أين أنت؟، سألت السؤال بابتسامة مضيئة وسعت الكون، وبادرها جميع زملائي بابتسامات واسعة أيضا حتى غاصت أعينهم، فسؤال كهذا يجعل المرء يبتسم، فكل منا يُحبُّ أن يُسأل هذا السؤال: من أين أنت؟

بدأت الآنسة تسألنا كلٍّ بدوره، لاحظت بأن صديقتي الصينية الأصل تنتظر دورها بفرح، ربما لأنها تعلَّمت كلمةً جديدة أو لأنَّها سعيدة بأنها ستتمكن أخيراً من إخبار الجميع من أين جاءت بلغة البلد الجديد الذي تقطنه، أما أنا فقد انتظرت دوري بقلق. فكيف افسر كوني فلسطينية سورية؟

جاب «السؤال» بخاطري معلنا رحلة عمرها 38عاماً، بدأها معي في أزقة دمشق التي نشأتُ بها، متنفساً عبق ياسمين المدينة القديمة العتيقة، على طرفي الطرقات. طاف السؤال مثلما طفت مرارا فوق قاسيون مرتشفة قهوة صباحاتي الممتلئة بصحبة الجيران وأفراحهم وأشجانهم.

جلس معي على مقاعد الدراسة التي تعلمت عليها، حتى أنهيت الثانوية العامة، وشاركني بوضع اختياراتي في المفاضلة العامة للطلبة السوريين، فخاب أمله مثلي كمعظم الطلاب، ثم اقتنع بفرع الجامعة الذي حصل عليه، وغادرها حاملا شهادة الأدب في العلوم الإنسانية باختصاص الترجمة.

طرق «السؤال» معي باب الأونروا، باحثا عن وظيفة شاغرة هنا أو هناك، وأدرك بأن الأونروا لن تمنحه ما يريد فغادرها متوجها نحو مؤسسة أهلية تعمل في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، فشاركني المؤتمرات والورش والندوات والفعاليات التي أقامتها المؤسسة للدفاع بصوت عال عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

والسؤال في كل لحظة من عمري (عمره) كان يؤكد حضوره لحظة ولادة أبي في الطيرة بحيفا عام 1944. ورافقه حين هُجر مرغما عن فلسطين عام 1948، وهو يحمل أربعة أعوام فوق ظهره سائراً بقدمين عاريتين نحو وجهة مجهولة ومفتوحة على كل الاحتمالات. رافقه مثلما رافقني، فسؤال الهوية (من أين أنت؟) موروث لدى الفلسطيني.

رافقني «السؤال» منذ ولادتي وسافر معي حاجزا له مقعدا جوار مقعدي في الحافلة التي حملتني إلى فلسطين، وسمعته يغني: «سنرجع يوما إلى حينا... ونغرق في دافئات المنى...»، عاد «السؤال» منتشيا عبقا بشذى نابلس وعطر البرتقال اليافاوي ومحملا بزيتون القدس، عاد معي لأول مرة كإجابة، عاد بعد أن عرف إجابة لذاته (لذاتي) للاجئ ما زال في تيه البحث عن هوية يكرسها بورقة يحملها، وأرضا يعود إليها.

كنت على وشك أن أنهي هذا التجوال حين فاجأني «السؤال» بصرخة خوف، فقد أصيب بجروح دامية حين انفجرت أول قذيفة في بيتنا القابع في أحد أحياء دمشق، دخل معي القبو الذي حُبِستُ فيه مع عائلتي 72 ساعة من الحصار إلى أن استطعنا الخروج سيراً خارج الحي، وسار «السؤال» مرافقا أبي للمرة الثانية بنزوج جديد... شاهد بيتنا يقصف، شاهد الطرقات كيف تبدلت ألوانها وكيف صُبغ الياسمين بالأحمر.

بحث معي في أزقة دمشق القديمة عن قهوة يرتشفها مع أحد الأصحاب، ومؤخرا ركب «السؤال» معي الطائرة التي أقلتني إلى إسبانيا، واصطحبني من جديد لمركز الهجرة واللجوء موقعا معي على ورقة اللجوء الجديد.

حط سؤال الآنسة روزياريو على كتفي، كفراشة، بعد أن أجاب بقية الطلبة المعروفي الهوية والواضحي الإجابات والاوطان، وقفت لأقدم إجابتي: أنا من سورية، ولدت ونشأت هناك، لكنني فلسطينية المنبت.

لم تكن هذه الإجابة التي تنتظرها الآنسة.. كانت تريد إجابة أكثر تحديدا: من أين أنتِ؟ وما هي جنسيتكِ؟ تعيد سؤالها، وقد بدات تنظر إلي وقد غابت عن وجهها الابتسامة، وارتسمت بدلا عنها تعابير التساؤل.. هل السؤال واضح؟ هل تصعب عليك الإجابة؟

عادت وشرحت لي من جديد، فقط أخبريني وأخبري زملائك، من أين أنتِ؟ وما هي جنسيتكِ؟ عدت لأشرح لها بأني ولدت في سورية. لكنني فلسطينية المنبت.. فأحضرت المعلمة خارطة العالم، وطلبت مني أن أوضح لها ذلك على الخارطة، فابتسمتُ وبدأتُ أشير لها على الخارطة بأني من سورية لكنني من.. من... أين فلسطين؟ يا الهي، لا وجود لفلسطين على هذه الخارطة، لا يوجد بلد على الخارطة يدعى فلسطين. «هذه ليست خارطة العالم كنت أحدث نفسي هذه خارطة اندحارنا نحن الفلسطينييين»..

سقط السؤال سقوطا مدويا.. وسقطت معه ابتسامتي. ولم أعرف إجابة لـ«السؤال».