إيمان بشير

مخيم القاسمية

 لفلسطين ولبنان تاريخٌ مشترك لا تستطيع الحروب والأزمات أن تمحوه. تاريخ مشترك بفعل التلاحم بالجغرافيا والإقتصاد الذي كان موجوداً من الأزل. فيافا التي إشتهرت بزراعة البرتقال، تعرف تماماً عرق المزارعين اللبنانيين، كما يارين تعرف أيادي الفلاحين الفلسطينيين الذين أتوا في الماضي في مواسم «شك الدخان». حلّت النكبة، ليس على فلسطين وحدها، بل على لبنان أيضاً.

 ففلسطين التي كانت تعامل اللبناني معاملة المواطن الفلسطيني فيما يتعلق بالتملك والعمل وإعطاء الجنسية، أصبح الوصول إليها مستحيلاً وإن كانت على مرمى حجر.

ولبنان، أقلّه جنوباً، كان قد إحتضن الفلسطينيين وعاملهم معاملة المواطنين اللبنانين، بالحد الأدنى. تاريخ يكاد لا يتكرر، وأصبح البحث عنه في الروايات والقصص مهمة ضرورية وخاصة إن كنت تعيش في إنفصام الهوية، بين لبنانيتك وفلسطينيتك إن إجتمعا في آن.

فمن أين تبدأ إذاً؟

.. ستأتي الأجوبة أحياناً من دون الحاجة إلى البحث عنها. ستي مثلاً، قررت أن تسرد تاريخها هي وحدها لأوّل مرة من دون الحاجة إلى سؤال بعد أن كانت قد سكتت على تاريخها سنين طويلة، وقررت فجأة أن تحكي روايتها التي هي أصدق من تاريخ الأقوياء والكتب والمقاتلين والباحثين والموؤخين إذا إجتمعوا معاً.

رواية ستي تبدأ من قانا وجوارها بعد النكبة مباشرة، حيث الجيرة الطبية ووحدة الحال كما تقول. تلك المنطقة المتنوّعة طائفياً بين شيعة ومسيحيين، لجأ إليها فلسطينيون بين عامي 1948 و1949 قبل أن يوزعوا في مخيماتٍ وتجمعات. تاريخ ستي عن تلك الفترة يحمل حنيناً غريباً إلى الماضي رغم اللجوء، حتى أصبحت مؤخراً تعيد ذات القصة من دون أن تشعر. تقول الختيارة في ساعة الصفو، وبقلبٍ صادق لا يحمل ضغينة لأحد: «شيعة الجنوب كتير طيبين وجيرتهن حلوة، يا ريت ضلينا بالجنوب؛ جارتي المسيحية وبنتها تيريز كانوا يحبوا خالك زيد كأنه واحد من ولادهن؛ أم تيريز يا ستي رضّعت خالك زيد وصار عنده أخوات مسيحيين؛ تيريز سمّت خالك شربل»، تسرح في الذاكرة قليلاً ثم تقول «يا ريت خليت إسمه شربل!». بحسب رواية ستي، كثيرٌ من نساء الجنوب أرضعن أطفال فلسطينيين كي لا يموتوا من الجوع، حتى أصبح عدد لا يُستهان به من أطفال لبنانيين وفلسطينيين أخوة بالرضاعة!

نكبة فلسطين لم تكن يوماً نكبة الفلسطنيين وحدهم، وحرب لبنان أيضاً لم تكن حرب اللبنانيين فقط! فالناس، لبنانيون وفلسطينيون، لم يعرفوا الطائفية بشكلها القاسي قبل الحرب الأهلية، تلك الفزّاعة التي إبتكرها زعماء الحرب، وصدقها الناس وإنجروا خلفها. وحتى اليوم نحن نعيش الوضع ذاته بإسم طائفية أخرى، طائفية الإخوة في المذهب والنضال. صراع لا علاقة لنا به كفلسطينيين، فكيف ننخرط فيه؟

قبل الحرب الاهلية، والحروب التالية التي لا زال لبنان يعيشها حتى اليوم، كان الجميع يعيش بسلام. إلى أن.. إختلط الدم بالحليب.