قبل عام ونصف، التقيت ميلانة بطرس، في مخيم شاتيلا جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، كنت حينها ضمن وفد صحفي يزور المخيمات الفلسطينية في لبنان.

وقتها حضرت ميلانة إلى المكان الذي يحوي نصبا تذكاريا لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، عند مدخل المخيم، وشرعت تعرض أمام الكاميرات الصورة التذكارية الوحيدة التي جمعتها بزوجها علي وأبنائها الثلاثة، خضر وقاسم ومحمد، والتي التقطها لها أحد المصورين عام 1982.

في الصورة تقف ميلانة بطرس بثوب أسود مخطط بالأبيض، يكشف عن جزء من ساقيها اللتين غطاهما الدم والتراب، وإلى جانبها أبناؤها وزوجها مكومين فوق بعضهم البعض، جثثا هامدة، ولدى مرور الصحفي، نزعت شالها عن رأسها وراحت تلوح له بلا وعي وتصرخ: "صورّ، صورني مع أولادي وزوجي، إنهم أولادي صور..صوّر"، ثم راحت يداها تتناوبان على ضرب رأسها.

آنذاك أخذت تشرح لنا الحال الذي وجدت عليه أولادها وزوجها، وتمرر إصبعها فوق الصورة: "هذا قاسم 19 سنة، طخوه براسه، وهذا محمد 17 سنة طخوه بصدره"، ثم أخذت تقربها من عينيها لتتوضح لها الرؤية أكثر وتكمل: "وهذا خضر 16 سنة، وهذا علي زوجي".

لم أتمكن في ذلك الوقت من الحصول على تفاصيل ومعلومات كاملة عما حدث لها وعائلتها خلال المجزرة، لقصر الوقت، لكني التقطت لها عددا من الصور، واحتفظت بها في أرشيفي الخاص.

منذ أيام وأنا أقلب في الصور، ظهرت أمام عيني صورة ميلانة، وطلبت من الأصدقاء في بيروت إيصالي بها إن أمكن، لكنهم عادوا ليبلغوني أنها توفيت منذ أشهر، وان أردت الحصول على معلومات بإمكاني التواصل مع ابنتها فاطمة.

هاتفت فاطمة، وأبلغتها أنني بحاجة للتأكد من بعض المعلومات، وكدت أقدم التعازي لها بوفاة والدتها، لكنها سبقتني لتقول: "سأجعلك تتحدثين إلى أمي، فهي أعلم مني بذلك".

أخذت ميلانة الهاتف وكلمتني، إذا هي حية ترزق، تحدثنا مطولا حول المجزرة وروت لي مزيدا من تفاصيل ما حدث ليلة الجمعة 16 أيلول/ سبتمبر 1982، الساعة السابعة إلا ربعا مساء، حيث أنارت القنابل الضوئية التي أطلقتها قوات الاحتلال الإسرائيلي وقوات الكتائب والميليشيا المتعاونة مع إسرائيل، المخيم وامتداده في حي صبرا الملاصق، ثم بدأ الرصاص يدوي في أرجائه.

يومها لم يستطع زوجها إقناعها بالخروج من المنزل والذهاب نحو أحد الملاجئ الذي بنته المقاومة الفلسطينية في المخيم خلال الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في العام ذاته، لاعتقادها أن هذا الرصاص ناجم عن مشكلة صغيرة بين مسلحين وستنتهي حالا.

لكنها عدلت عن رأيها بعد أن شعرت بالخوف لاشتداد إطلاق النار، ولأن الناس في المخيم بدأوا يتناقلون الأخبار التي تفيد بقيام الجيش الإسرائيلي بحصاره وإغلاق مداخله كافة، وليقينها بأن ألواح "الزينكو" التي بني منها منزلها لن تحميها وعائلتها من الرصاص، لذا لملمت ميلانة نفسها وهرعت مع عائلتها إلى الملجأ، واختبأت هناك بانتظار أن يهدأ إطلاق النار.

مرت ثلاث ساعات والخوف يتملكها و40 آخرين من جيرانها وأهل المخيم، كانوا نساء وأطفالا وشبانا وشيوخا احتموا داخل أحد السراديب، لكن مليشيا الكتائب اللبنانية المسنودة من الجيش الإسرائيلي بقيادة وزير الحرب في حينه "أرئيل شارون"، عثرت عليهم.

قالت ميلانة إن الجيش الإسرائيلي والميليشيا اللبنانية التي نفذت المجزرة قامت بإخراجهم جميعا من الملجأ، وطردوا النساء والأطفال وأبقوا على الرجال، فما بقيت عينيها تراقب أولادها وزوجها وهم يقودونهم إلى منطقة قريبة داخل المخيم لحين تواروا عن الأنظار.

دقائق قليلة ثم دوى الرصاص في المخيم، سمعته ميلانة ومن برفقتها من النساء، قبضت بيدها على صدرها وصرخت "قتلوهم".

منعها الجيش الإسرائيلي، والميليشيا من الدخول إلى صبرا وشاتيلا لرؤية زوجها وأبنائها، وعندما حاولت ذلك صاح أحدهم في وجهها "انقلعي من هون"، ثم أخذت دربها نحو مخيم برج البراجنة القريب، لتضع ابنتيها فاطمة، التي لم تكمل حينها عامها الثالث، وليلى (عام واحد) عند أحد أقربائها، في حين كان ابنها الرابع حسين قد تمكن من الهرب قبل وقوع المجزرة، ولاحقا علمت أنه أصيب ونقل إلى أحد المستشفيات القريبة.

بعد مضي ثلاثة أيام، قدمت ميلانة للمخيم للبحث عن أولادها وزوجها، بين آلاف الجثث التي امتلأت بها أزقة صبرا وشاتيلا.

تصف المشهد: "كانت الجثث المنتفخة تسد الأزقة، وأخرى مشوهة لكثرة الرصاص التي اخترقها، وبعضها أتت عليها الحشرات والذباب، في بعض الأحيان كنت مضطرة للقفز من فوقها وأنا أتنقل من زقاق لآخر، والدوس عليها من غير قصد في أحيان أخرى، وأثناء بحثي كنت أنحني لأبعد الجثث عن بعضها، في محاولة لإيجادهم، وبعد ساعة وجدتهم عند مدخل المخيم . كانوا متكومين فوق بعضهم هم ووالدهم".

كما مرت ميلانة بجثث مقطعة، وأخرى تم تكبيل يديها وقدميها، قبل أن يقوم القتلة بذبحهم، وما زالت تتذكر مشهد النساء الحوامل اللواتي قتلن، وبقرت بطونهن بالسواطير "البلطات"، كان من بينهن إحدى جاراتها.

صمتت حتى ظننت أن المكالمة قطعت، ثم عاودت حديثها: "كان الدفاع المدني يقوم برش الجثث بالأدوية للتخفيف من الرائحة".

دفنت ميلانة التي صارت اليوم في التاسعة والسبعين من العمر زوجها وأولادها في مقبرة الشهداء في حي الشياح القريب من المخيم.

شكرتها وودعتها، وقبل أن أقفل الهاتف قالت إنها أخرجت الصورة من الخزانة، بانتظار الصحفيين الذين يأتون لمنزلها في ذكرى المجزرة.

اليوم وبعد 35 عاما على المجزرة التي راح ضحيتها ما يزيد على 3500 شهيد، أصبحت ميلانة قبلة الصحفيين منذ ذلك الوقت، فبين يديها صورة لدم الضحية الذي سفكه الجلاد، ومضى دون حساب أو عقاب.