خاص مجلة "القدس" العدد 338 حزيران 2017
بقلم: خالد غنام أبو عدنان
هل تعلم سبب شهرة القضية الفلسطينية؟ لأنكم أنتم أعداؤنا. يعود أصل الاهتمام بالفلسطينيين إلى الاهتمام بالمسألة اليهودية. الاهتمام كله لكم أنتم، وليس لي أنا. مصيبتنا هي أن عدونا هو إسرائيل التي تستفيد من دعم لا حدود له، من ناحية، ومن حظنا أن تكون إسرائيل عدونا، لأن اليهود هم بؤرة الاهتمام، من ناحية أخرى، أنتم تسببتم لنا بالهزيمة والشهرة معاً (محمود درويش في لقاء مصور مع المخرج الفرنسي، جن لوك غودار بعنوان موسيقانا 2004).
إن المعرفة الحقيقية لهوية الشعب الفلسطيني تتطلب معرفة أسس تشكل هذه الهوية وانسلاخها قسراً عن حاضنها الطبيعي الوطن العربي وعالمها الإسلامي. فهي هوية حديثة العهد تشكلت إبان فترة الانتداب البريطاني بعد انهيار مشروع الثورة العربية بتشكيل دولة عربية جامعة بقيادة الملك فيصل، وقبل هذه الأحداث لم يكن هناك توصيفات قطرية تمايز فلسطين عن محيطها العربي، بل ان خريطة سايكس - بيكو الاستعمارية غيّرت العديد من المركبات الاجتماعية والاقتصادية المكونة للهوية الشعبية. فقد كانت العلاقة بين جبل عامل في جنوب لبنان وعكا أكبر بكثير من علاقة جنوب لبنان ببيروت، وكذلك أمر اتصال نابلس بدمشق والسلط أعلى بكثير من اتصال نابلس بالقدس. وهي صلات أكبر من علاقات تجارية وتبادلات اقتصادية، فهي اللبنات العتيقة المكونة للكينونة المجتمعية والتدفق الثقافي والموروث الفكري بشكل أوسع.
فلسطين ليست جغرافيا سحبتها رياح الاستعمار إلى دوامات اللا مكان، بل أنها حدود المنطق الرافض لجبروت تقسيم الوطن العربي لدويلات لها حدود سياسية تقف حاجزا ضد وحدة قبلية عربية ممتدة في ثلاث دويلات أو أكثر، وهي بديهية الصلات التجارية بين مدن الجبل ومدن الساحل وأكثر من هذا هي التناغم الحضاري بين أهل البادية وأهل المدن وأهل الفلاحة، هي باختصار رفض لفكرة الهزيمة والتمسك بقانون فيليا.
فيليا أجمل إبداعات فيثاغورس الفلسفية فهي علاقة المحبة القادرة على تغيير جدلية الصراع إلى تسامي المحبة العليا، التي تبدأ بالتسامح والغفران ضمن إطار الأسرة مما يعطي مساحة لقبول تصويب المسلك وتقويم الفكر، ومن خلال المحبة يتم الصعود السوي لفكرة التوأمة الروحية بين أفراد الأسرة مع تبني مسلكية مقبولة من الطرفين ضمن توحيد الأفكار المشتركة. أما المرحلة الثانية من فيليا فهي محبة المجتمع القاعدية المشكلة لتفاعل الأسرة مع محيطها الخاص بعلاقات دافئة مع الأسرة الممتدة والجيران وأيضاً تمتين مفهوم الزبون الوفي والاتجار الشعبي مما يرفع مستوى المصلحة الفردية إلى سماء المنفعة المشتركة ضمن قانون فيليا. وتعد المرحلة الثالثة مرحلة السلطة وحكم المجتمع في إطار التعايش السلمي لمكونات المجتمع ضمن تماسك رأس المال الاجتماعي بعيداً عن التعصب وفرض القيود الجبرية على الأقليات، وهي أساس التعددية الفكرية التي تسمح بالتعايش السلمي بين الأديان وتقبل تعدد الولاءات السياسية ضمن إطار الوحدة المجتمعية مع بقاء العوامل المشتركة الجامعة بين أفراد المجتمع للحفاظ على الوعاء الحاوي لكل مكونات رأس المال الاجتماعي الضامن الحقيقي لاستمرار الوحدة المجتمعية المبنية على المحبة، فهي محبة الرغبة بالانتماء للمحيط وهي الروابط المشتركة بين الأركان القطبية لرأس المال الاجتماعي.
هذا الشكل العملي للمجتمع هو أساس الحضارة الشرقية، التي عرفها فيثاغورس عن كثب في فينقيا وجبل الكرمل ومصر وبابل، فقد عاش فيها أربعون عاماً جعلته يؤمن أن الفردية استبداد والتعددية محبة، وكانت أولى استنتاجاته بالمثلث العشري تقوم على رأس الهرم نقطة الفردية والأنا لكنها لا تحيا إلا بقانون المحبة بمراحلها التتابعية، وهذا شكل المجتمع العربي عبر العصور فلا يوجد دين واحد ولا يوجد سلطة قضائية واحدة ولا يوجد جيش واحد ولا يوجد شكل واحد للعلاقة الأسرية ولا يوجد زي شعبي واحد ولا لهجة شعبية واحدة ولا يوجد إلا تعايش موزاييك يقبل التنوع ويؤمن بحق الآخر بالوجود
كما أعطى فيثاغورس صورة أعلى لقانون المحبة تحدد علاقة المجتمع مع الآلهة الراعية لاستمرار حياة السلطة المجتمعية، هذا الجزء من القانون يعتبر أكثر قوانين المحبة فهماً، لأن كتابة قانون فيليا ضمن المجتمع الإغريقي العتيق الذي يؤمن بتعدد الآلهة والصراع الدائم بين نفوذ الآلهة وتداخل مفهوم الشر والخير في صورة جدلية ترفض التوصيف المطلق ان الشر منبوذ مجتمعياً، لأن هناك تعددية مفتوحة منفتحة لقبول استنتاجات متعددة لفكرة واحدة، فما يراه البعض عدوانا هو عند البعض الآخر فتوحات وما ينعته البعض بالخيانة يراه البعض الآخر انتقاما ضروريا. ومن جانب آخر يعتبر قانون فيليا أقدم قانون يمنح الحاكم الصالح سلطة سماوية بل ان بعض أتباع هذه المدرسة يؤمنون بتحول الحاكم الصالح لجزء من الآلهة المعبودة، وأن الحاكم الأرضي هو امتداد للحاكم السماوي بل ان الحاكم الأرضي قادر أحياناً كثيرة على الانتصار على الآلهة السماوية.
كما هو وارد بالتوراة من انتصار يعقوب –عليه السلام على الرب يهوه وانتزاعه لقب إسرائيل من السماء، في جدلية طبقات تعدد الآلهة فالرب يهوه إله السماء السفلى أما إيل فهو إله السماء الوسطى، ومجرد النظر العميق للمغزى بأن يعقوب – عليه السلام ارتفع ليصبح عبدا ( إسرا تعني عبداً أو سجيناً أو ساجداً بالآرامية) لإله السماء الوسطى إيل، أي أنه تساوى مع يهوه بالمرتبة وتحول لجزء من آلهة السماء السفلى. وبالتأكيد أن فيثاغورس عاصر فترة انتصارات قورش بل انه أُسِر في مصر وعاش ضمن خيام الأسرى المصريين قرب بابل لثمانِ سنوات، إلا أنه لم يتفقه بالتوراة التي لم تكن دونت بعد. فلسفة فيليا تدرس الحضارة الفرعونية والكنعانية أكثر من أي حضارة شرقية أخرى. إنها العلاقة بين قرص الشمس وفرعون والعلاقة بين تنين البحر وأفعى الجبل عند فينيقيا وتلون الخير والشر عبر فصول السنة في مدن كنعان. والجدير بالذكر أن أباطرة وقياصرة الروم تم اعتبارهم جزءا من الآلهة بعد موتهم والقليل منهم أصر على أنه خليفة الله في الأرض، وإله حي سيصعد إلى السماء بعد تأدية واجبه الأرضي فهو إله بصورة إنسان. فهذه المنهجية بتقديس الحاكم السياسي دفعت المجتمع لزوايا الاستبداد الثقافي والاستلاب الديني، خاصة بعد دمج مفهوم الكاهن الأعظم مع الحاكم المقاتل، فهو تملك الرأي الأوحد في كافة الأحكام السياسية والدينية والعسكرية، مما بدّل الفقه الديني ليلبي احتياجات الحاكم السياسية والعسكرية، وهذا بدوره سحب الكثير من القداسة للنصوص المقدسة وخاصة التوراة والإنجيل، لأن لهما آليات متعددة في التوثيق والتدوين تعتمد على رغبة الحاكم السياسي ومصالحه المجتمعية أكثر من روحانيات علاقة الحاكم بربه، لأنه شريك الرب بالحكم وله حق تعديل النص المقدس لأنه هو نفسه جزء من المقدس.
من جانب آخر دوّن كتاب التوارة والإنجيل أن وطنهم هو أرض الميعاد، وفي وصفها أنها أرض اللبن والعسل، هذا التوصيف الدقيق لطبيعة المقدس يرسم سمات المجتمع وشكل الحكم، فهي رموز لحياة البداوة والترحال لا رموز للفلاحة والاستقرار، وهي حصول على النتاج الجاهز حالا، دون مشقة الزراعة بمراحلها الطويلة، كما أن الارتباط الثاني وهو ارتباط مادي بحت، يتعلق بفوقية العلاقة مع الأرض، فالعسل لا يخرج من النحل إذا لم يأكل النحل من الأزهار، وكذلك الحليب لا يتشكل في بطن الدواب قبل أن تأكل هي من الأعشاب، أي أن الإله السماوي مسؤول عن توفير ذلك أما الإله الأرضي فوق يحاصص الخيرات بين أتباعه. وفي رسم أكثر وضوحاً لا تذكر لنا التوراة اسم أي يهودي أو إسرائيلي ساهم في بناء الهيكل أو مذبح الرب، رغم ذكرها لمساهمات أمراء فينيقيا وكريت وقبرص وحتى الكنعانيين والفلسطينيين، بل انها لا تذكر أن سليمان – عليه السلام كان نبيا بل أنه ملك أي الإله الأرضي الأعظم.
بالتأكيد ان تعريف أرض الميعاد بقي في حركة دائمة حيثما كان هناك حاكم سياسي يحكم على طريقة الإله الأرضي، بل أن مفهوم الإله الأرضي توسع في القرون الوسطى ليمحور ما سمي مجازا بالحضارة، والحضارة هي السمو الأرضي والارتقاء الفلسفي بحيث يشارك الحاكم بصفات الإله الأرضي، أي أن مجتمعاً ما يمايز نفسه عن باقي المجتمعات، ويقفز لمرحلة وسطى بين البشر العاديين والآلهة، ضمن فكرة شعب الله المختار وبتجلياتها المسيحية، فجاء تصنيف العالم بأنه إما متحضر وإما همجي، وهذا المتحضر عبارة عن أوروبا المسيحية أما الهمج فهم باقي شعوب العالم. وهذه المعادلة هي الشكل الأولي للنظرية التشاؤمية للاقتصاد والتي صاغها البريطاني مالتس وهي تسمى أيضا نظرية الاستعمار، النظرية تدرس علاقة البشر بالمواد الطبيعية وأن هناك تزايداً بعدد البشر أكثر من زيادة المحاصيل الزراعية والحيوانية، أما حل "مالتس" فهو الاستعمار، بمعنى أن الأمة المتحضرة لها الحق بقتل الأمم الهمجية وسرقة خيراتها، وأكثر من هذا فالنظرية ترتكز على أساس شعب الله المختار فهو المتحضر أما "الغوييم" فهم الهمج النجس المطلوب تطهير الأرض من شرهم لأنهم من سلالة الشياطين.
إن مجرد قراءة كتب الإرساليات البروتستانتينية في القرن الثامن عشر يتضح أن بذور الفكر الاستعماري لها أبعاد دينية أكثر من مشكلة ندرة الموارد والتضخم السكاني، ولعل مقولة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب التي تم الترويج لها للقتل بدم بارد شعوب إفريقيا والأمريكيتين في القرن السادس عشر تعطي التوضيح الحقيقي أن الأمم الهمجية ليسوا جزءا من الشعب، وأن الشعب لا يمكن أن يستقر بأرض واحدة، فهو دائم الحركة من أرض إلى أرض، لأن كل الأرض له، وهو الشعب الوحيد، أما الباقي فهم ليسوا شعبا بل مراحل تدريجية بتطور الإنسان، فحتى "داروين" لم يجرؤ على تحديد قمة نظرية النشوء والتطور إلا بالسند الديني، أي أن العنصر الأوروبي إن كان غير مؤمن بالمسيحية فهو جزء من نظرية المسخ أو أسطورة استعباد الآلهة في ميثولوجيا روما القديمة. أما مسيحيو باقي العالم فهم أتباع لأسيادهم في أوروبا يقومون بتنفيذ مناهجهم الفكرية وخططهم السياسية.
ويشرح الأستاذ أنطوان سعد قضية بقاء مسيحيي الشرق بطريقة مرعبة، حيث تعمل الكنائس الغربية على إنهاء الكنائس الشرقية إما بتحويل أتباعها للكنائس الغربية أو السحب القسري لمسيحيي الشرق للدول الأوروبية، ومن ثم تحويل الجيل الثاني منهم إلى المذاهب المسيحية الغربية، وإذا ما درسنا دور اليهودية العربية في صياغة الأحكام الدينية في إسرائيل يجعلنا نقرأ أن اليهودية العربية متجهة نحو الانقراض، وهذا سبب الهجرة العكسية من اليهود العرب إلى خارج إسرائيل باتجاه الدول الغربية للحفاظ على التراث الديني، وممارسة الشعائر الدينية، حيث أن سيادة الأحكام الدينية في إسرائيل الرسمية هي حكرا "للإشكناز"، وهناك التفافات خطيرة على مفاهيم المذاهب الدينية اليهودية التي يختصرها البعض "بالفلاشا" و"السفارديم"، رغم أن يهود العرب ليسوا كلهم "سفارديم" ولا كل يهود إفريقيا هم "فلاشا"، كما أن هذا تصنيف لا يعطي تصنيفا ليهود آسيا الوسطى وإيران والهند، لكن إسرائيل الرسمية تصر على أن اليهودية الرسمية هي اليهودية الغربية التي صنعت الصهيونية ومازالت الوعاء الواقي لفكرها. في طرح فكرة يهودية الدولة أخذت تتبلور مناهج تحديد الهويات بعد رفض يهود روسيا أن يبدلوا أسماءهم بأسماء عبرية، وهم الذين يبحثون في إعادة صياغة اللغة العبرية لتشمل على الكلمات الروسية ولهجاتهم الشعبية، أكثر من هذا هناك جدل واسع على تحديد مفاهيم أساسية عن "الكوشر" أي الأكل حسب الشريعة اليهودية، كما أن هناك تبايناً واضحاً حول تعريف المكان المقدس، وقدسية التلمود وكتب التشريع اليهودي، بل هناك عراك مستمر حول نظام المحاصصة عند حائط المبكى (حائط البراق).
كما أن اليهودية تعتبر أكثر دين يمتلك مدارس ومناهج فكرية جديدة على نهج الإصلاح الديني البروتستانتي والتناسق المذهبي بين البوذية واليهودية وتناسقات أخرى بين أديان إفريقية وثنية واليهودية، وبعضها نظريات دمجية بين علم تطوير الذات والصعود بفكر شعب الله المختار للسماء السفلى بتسامٍ "شيفوني" عن باقي البشر. فالدين اليهودي لم يكن إلا دينا متعدد الأوجه متلون الغايات ويخضع لاحتمالات الانطواء على الذات والخوف من الآخر في مواربات تمجد الفارسية تارة وتمجد الإغريقية الهيلينية تارة أخرى، وتطرح أفكار الانتقام من القوي الشرس إن كان إمبراطورا رومانيا أو أمراء الحروب الصليبية، إنه دين بنهكة الخرافة التي تجعل التفوق يأتي كيفما اتفق ليتماشى مع واقعية الوضع السياسي، فهو الدين الذي اعتبر الأرض الأمريكية – في بداية الاحتلال الأوروبي لها- أنها أرض الميعاد وأن أورشليم سقطت من السماء فيها فأمطرت ذهبا، وتلى ذلك اعتبار جنوب إفريقيا أرض الميعاد وأن ألماسها لا يعتبر من التكوين الجيولوجي العلمي، فهي هبطت من أورشليم السماوية، فمسألة تلوين شروحات النص المقدس مرتبطة بالفكر الاستعماري المتحرك، الذي يؤمن بنهب الثروات ثم ترك بلاد الآخرين خربة منهوبة أو تابعة مسلوبة الإرادة.
أما اليهودي الرسمي وتعريف المواطنة بالمواطن، فهو يتحرك في فضاء علم الأجناس والأعراق، إلا أن القاعدة الأساسية هي أن اليهودي لابد أن يمر بمرحلة الصهيونية أي الإيمان بالهجرة إلى إسرائيل ضمن ما يسمى عاليه، وعاليه لها شروحات عديدة محددة بمفهوم "إغيت ياسرائيل" أي العودة إلى أرض إسرائيل، وهناك أبحاث يهودية عديدة تمايز بين أرض إسرائيل وأرض الميعاد، بل أن الهجرة إلى أرض الميعاد مرتبطة بعودة المسايا عند البعض وبعودة المسيح المخلص عند البعض الآخر، وهذا سبب الجدل بمفهوم صبرا الذي يعني يهودي مولود بأرض الميعاد، وهذا المفهوم مرفوض من مرجعيات يهودية دينية، خاصة الروسية والسفارديمية فهناك اختلاق لأرض الميعاد في داخل إسرائيل، حيث أن هناك مناطق متعددة محرمة على بني إسرائيل وفق التشريع البابلي مثل منطقة نابلس، وإن مجرد بناء مستوطنات هناك شكّل جدلا واسعا حول تعريف أي شكيم والسامرة وأي الأجزاء المحرمة هل هي جنين وطولكرم أم سلفيت ونابلس، وقبله كان جدل تحريم منطقة حاصور وهل الناصرة هي حاصور أم طبرية أم حاصور لم تكن موجودة بفلسطين بل في آشور شمال العراق.
وفي جدل أوسع حول مفهوم المرتد المعرف باسم "يردي" أي الذي هاجر إلى إسرائيل ثم كفر بالفكر الصهيوني وقرر العودة إلى وطنه الأصلي أو الدول الغربية، والغريب أن هذا المصطلح أول ما أطلق على يهود ألمانيا الذين عاد قسم كبير منهم إلى ألمانيا في الخمسينيات من القرن الماضي، والحركة الأصعب التي واجهت الصهيونية هي فكرة حق تقرير المصير لليهود الأوروبيين ومطالبتهم بإعادة الجنسية والهويات الثبوتية إضافة للتعويض المالي، ولعل المواطنة في إسرائيل تشكل أصعب أشكال المواطنة فالغالبية العظمى من يهود إسرائيل من ذوي الجنسية المزدوجة.
من جانب آخر اعتبرت الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي هي المحدد الأساسي للحصول على حقوق المواطنة الكاملة، ضمن الصياغة الأولية لإعلان استقلال إسرائيل، إلا أن الصراع جاء حول المهام المطلوبة من الجندي الشيوعي والمهام المطلوبة من الجندي الأرثوذكسي وأسس فكر الهاغانا وشتيرن وأرغون كبريات العصابات الصهيونية التي لم تلتزم بفكر ديني محدد، ومازال هذا الصراع ذا نبرة حادة بين المدارس الفكرية العسكرية في إسرائيل، بل ان اليهود الأرثوذكس يرفضون منح غير اليهود حقوق المواطنة الكاملة من الدروز والأحمديين والبهائيين رغم وجود ممثلين لهم في المجلس الصهيوني العالمي، بل ان المدارس الصهيونية الأمريكية تعتبر الصهيونية الدرزية أقل شأنا من الصهيونية العربية أو الصهيونية الهندية، وأن الصهيونية المسيحية الغربية هي الوحيدة القادرة على الحصول على المواطنة الكاملة في إسرائيل. كما أن هناك جماعات أرثوذكسية جديدة مثل بني أكيفيا خرجت من جغرافيا المكان في المواطنة واعتبرت أن كل اليهود بالعالم هم مواطنون إسرائيليون حتى وإن لم يهاجروا إليها، لكن الرب لن يتقبل منهم أي عبادة ولن يعتبروا ملتزمين بالتشريع اليهودي هالاجا إلا إذا خدموا بالجيش الإسرائيلي، ولهذه الجماعة مراكز تدريب في مستوطنات الخليل وجنوب الضفة الغربية خاصة بيهود استراليا.
بالمقابل فإن وضع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر لا يمكن أن يؤهلهم للحصول على المواطنة الكاملة، بل أن هناك أكثر من خمسين قانونا تجسد التمييز العنصري ضدهم وضد أي مواطن لا يؤمن باليهودية، ولا يؤخذ بالاعتبار إن كان ممن واظب على أداء الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي أم لا، ولعل أحداث النقب بالأعوام الماضية لدليل صارخ على أن أداء الخدمة العسكرية من بعض البدو لم يشفع لهم في الحفاظ على أرضهم ولا احترامهم كمواطنين، بل أن العديد من المراقبين الغربيين يؤكدون أن تعامل الأمن الإسرائيلي مع بدو النقب أشرس بكثير من تعاملهم مع قرى الجدار بالضفة الغربية، لأسباب تعود إلى التفسيرات الاشكنازية لنصوص التوراة بخصوص البدو وأنهم أصلا من سلالة الشيطان وأن قتلهم – حتى بدون أسباب- يعتبر واجباً دينياً مقدساً.
إذن فإن مفهوم يهودية الدولة ليس له أركان حقيقية في أرض الواقع، وأن التراكيب المكونة للدولة غير قادرة على صهر الدين ليتماشى بشكل تام مع فكرة الدولة، وهذا أمر أكثر من طبيعي في فشل مفهوم الدولة الدينية بشكل عام، فلا يمكن اعتبار أنصار هذه الفكرة في باكستان وإيران والسعودية قد نجحوا بصهر المذاهب الدينية في مذهب واحد لكافة المواطنين، مما جعل أن هناك استبداداً داخلياً ضد المذاهب غير الرسمية، وبنفس الطريقة يواجه أتباع البروتستانتينية في روسيا مضايقات عديدة وأحياناً وصفهم بعملاء دول معادية وبنفس الطريقة يتم التعامل مع الأرثوذكس الروس في الولايات المتحدة وكذلك الكاثوليك اللاتينيين، مما جعل الفكر السياسي يعمل على تحرير الدين بدلا من حرية ممارسة الشعائر الدينية مما خلق مرجعيات دينية قطرية، فالأرثوذكس الأمريكان ليسوا مرتبطين بكنيسة خارج الولايات المتحدة، شيعة باكستان لهم مرجعياتهم المحلية، وكذلك الصينيون في ماليزيا لهم نظام كهنوت يختلف عن ما هو موجود في الصين، ولا يمكن اعتبار اليهودية استثناء لذلك بل أن هذه المرحلة من التاريخ تعد أكثر المراحل خطورة بتشكل جماعات دينية صغيرة متضاربة دينيا لكنها تتوحد تحت راية علم مواطنة الدولة الليبرالية والفكر الرأسمالي المتحرر، فهي مرحلة هبوط السماء السفلى على الأرض وتحول عدد كبير من المرجعيات الدينية إلى آلهة أرضية، حتى لو كان أتباع بعض المرجعيات لا يتعدى الألف شخص، إلا أن الحكومات الغربية تشجع تفقيس الأديان والمذاهب المحلية لحماية دولة المواطنة التي باتت ترتكز على جباية الضرائب وحماية المجتمع بجيش قوي بغض النظر عن هوية هذا المجتمع.
فمسألة الهوية أصبحت طبقات متراكمة في زمن العولمة بعدما كانت حدود الجغرافيا المحلية لمسلك البشر في مكان ما، هذه الطبقات لم ترتسم وفق قانون التناغم الفكري والتعدد الثقافي بل ان هناك مستويات من المواطنة جعلت مجموعة من المواطنين لهم حقوق أكثر من المواطنين الآخرين، فعلى سبيل المثال يبقى الأمريكي من أصول أوروبا الغربية أعلى من الأمريكي من أصول أوروبا الشرقية، وهذا أعلى من أمريكي من أصول افريقية، وهو أعلى من هو من أصول أمريكا اللاتينية. كما أن هناك حقوقاً لمن وُلد أبوه في أمريكا أكثر من أولئك الذين ولدوا في أمريكا، أما من أصبح أمريكيا بالتجنس فيعتمد لماذا منح الجنسية، قد تكون هذه الفروقات غير ظاهرة لمن ينظر على أمريكا من الخارج، لكن من عاش في أمريكا فترة طويلة يعلم أن هناك تمييزاً كبيراً بين المواطنين، هذا وتعتبر أمريكا أفضل دولة بحقوق المواطنين، خاصة المواطنين من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، إذا ما قورنت ببريطانيا أو استراليا.
وإذا ما نظرنا إلى الشكل الخارجي للمواطن نستطيع تحديد إلى أي مدى هذه العنصرية ظاهرة، فإذا وصفت الشخص الأمريكي لا يمكن أن تتقبل أن يكون ياباني الشكل، رغم أن هناك يابانيين في أمريكا منذ مئتي عام، بالمقابل هل تملك أن تنكر أن هناك فلسطينيين من أصول أفريقية وآخرين من أصول هندية وكردية وتركية وبشناق وأرمن وشركس وشيشان، وكل هذه الأقليات تعيش كما تشاء وتمارس شعائرها الدينية والتراثية دون أن يهاب ردات فعل المجتمع الفلسطيني، لأنه مختلف عن الباقي، وفي نظرة أصعب أن المسيحيين الفلسطينيين أحرار باتباع أي المرجعيات الدينية دون أن يحسبوا عملاء لأي دولة وبالتأكيد أن المسلمين الفلسطينيين ليس لهم مذهب محدد تفرضه الدولة ولا مرجعية دينية ملزمة غير دوائر الإفتاء الرسمية.
أما الطبقات الصغرى للهوية فهي أصعب من أن توحد بشكل واحد والتي تشمل على اللهجات المحكية والأغاني الشعبية والزي الشعبي والأكلات الشعبية وباقي المكونات التراثية المختصرة بالتقاليد والعادات والقيم الاجتماعية، هذه الطبقات صعبة الانحلال في أغلب الدول الشرقية وفلسطين ليست استثناء، فمثلا الثوب الفلاحي المطرز هو متنوع لدرجة كبيرة في منطقة وسط فلسطين، ويعد رمزا تراثيا أساسيا فيها، إلا أن منطقة الجليل تتفاخر بأن أثوابها مذهبة بالحرير دون أن يعني أن هناك ثقافة تطغى على الأخرى، بل أن هناك تعايشاً توافقياً بين المناطق التراثية خاصة أن نسبة التزاوج من خارج الأسرة الممتدة في فلسطين تعتبر من أعلى النسب المسجلة في الوطن العربي. ومن جانب فإن تحديد المشترك بين المناطق التراثية يكاد يكون أصعب ما يمكن حصره فمثلا هناك ثلاثون طريقة لتحضير الفلافل في فلسطين وهي أكثر تنوعا من كل بلاد الشام مجتمعة، وهذه أمور قد لا تعني الكثير لمن يرى أن كل منطقة في فلسطين لها مذاق خاص وفهم خاص لما هو تراثي وحضاري.
لكن الحقيقة أن مفهوم يهودية الدولة يطرح خوفا لما هو جامع للمجتمع الفلسطيني، وهذا الجامع له مرتكزات عميقة في الفكر التراثي الفلسطيني، فالفلسطيني قد يختلف مع الفلسطيني الآخر على كل شيء يخص التراث، لآن كل منطقة فلسطينية هي عبارة عن وحدة تراثية منفصلة عن الأخرى في تشكيلة موزاييك بلاد الشام والعراق حيث أن التنوع الحضاري جعل كل منطقة صغيرة لا تتجاوز عدة بلدات لها سمات تراثية خاصة تسمى "فلكلوريات الهلال الخصيب". أما الجامع الوحيد لمجمل هذه المناطق التراثية والركيزة الوحيدة الجامعة للفلسطينيين هي الهوية الثورية المقاومة للمشروع الصهيوني، وما طرح مفهوم يهودية الدولة إلا لتوحيد اليهود ضد الهوية الثورية للشعب الفلسطيني من خلال البحث عن ما هو الجامع عند الإسرائيليين ليحارب ما هو جامع عند الفلسطينيين. وقد يكون الجامع بين الفلسطينيين حقيقيا وتفاعليا نشهد بشكل مستمر من فعاليات تتراكم من حيفا والناصرة إلى القدس والخليل إلى رام الله ونابلس إلى غزة وخانيونس إلى الوحدات والبقعة إلى الرشيدية وعين الحلوة، تفاعل يذهل العالم بأن هذه الهوية الثورية غير قابلة للكسر حتى لو أن هناك تعددية في فهم شكل هذه الهوية بين البندقية والنضال السلمي والمفاوضات وبين شرعية القيادة والقيادة الشرعية تتوحد كل مكونات الشعب الفلسطيني وأنصاره من أحرار الدول العربية والأصدقاء حول العالم ضد المشروع الصهيوني الذي يعتبر أكبر جريمة في حق الشعب الفلسطيني وكذلك بحق الدين اليهودي أيضاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها