يقول المثل الشعبي التركي: عندما يقع الغني يقال هذا حادث وعندما يقع الفقير يقال إنه سكران، وفي غزة التي تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط يعيش الفقير والغنى في واقع متناقض، فأسواقها تمتلئ بجميع أنواع المأكولات الشرقية والغربية فضلا عن المشروبات بكافة أنواعها وأشكالها، وهي ذاتها غزة التي احتضنت الموت عدة مرات، فيما صدرت الورود والحب واستقبلت آلاف الأطنان من الصورايخ والقذائف التي أدت إلى استشهاد رجالها وشبابها وأطفالها، فغزة التي وجد بها رجال الأعمال والفنادق والمنتجعات والمتنزهات التي كلفت أصحابها مئات آلاف الدولارات، فغزة التي تبلغ مساحتها 360 كيلو متر مربع يعيش فيها الغنى والفقير والقوي والضعيف والأسود والأبيض والطويل والقصير.

عائلات تتخذ القبور منزلاً  لها ومكاناً للعيش ، وإذا تجاوزنا كل هذه الصور المتناقضة، واتجهنا إلى مقابر الأموات، سنجد بين القبور القديمة والتي تحتضن ألاف الموتى التي تحولت أجسادهم الى رماد، وعلى عشوائيات الإنشاء والبناء البسيط تسكن عائلات غزية يقدر عددها بمائة عائلة يسكنون في هذه المقبرة القديمة منذ هجرتهم من أراضى 1948م حتى هذا اليوم.

يسكن المسن عمر حمودة كحيل 65 عام وعائلته التي يبلغ عددها 28 فرداً بينهم أطفال ونساء وزوجته المسنة التي لا تستطيع الحركة بسبب كبر السن وبعض الأمراض التي حلت بها، تعيش هذه العائلة في حالة إنسانية من الصعب أن توصف بعد أن ضاقت بهم الدنيا  منتظرين أمر الله بهم ويعُدون الدقيقة تلو الدقيقة في حياتهم المأساوية التي لا يسمعهم سامع ولا يراهم بصير.

يسير حمودة بين القبور القديمة  ولسانه يتردد دائماً " لنا الله على هذه العيشة " يجر بيده دابته التي يتخذها كباب رزقاً له ولعائلته التي عانت ولا زالت تعانى هذه المعانة منذ لجوئهم لغزة  يقول حمودة " إننا نعيش في هذه المنطقة منذ اللجوء اتخذنا المقبرة بيتاً لنا ومكاناً للعيش بعد أن ضاقت بنا الدنيا، ونحن أصبحنا في عداد الموتى لا فرق بيننا وبين من يسكنون تحت التراب سوى أننا نتنفس فقط، ويتابع المسن عمر  قوله " وضعنا الصعب الذي نمر به في العائلة أنا وجيراني لا يوصف ولا يمكن أحد أن يتخيله على الإطلاق زوجتي مريضة وأبنائي لا يستطيعون العمل بسبب الأوضاع الاقتصادية ومرض أحدهم بعد إجرائه عدة عمليات في القلب  وحالنا كحال الموتى القابعين في القبور التي نتخذها منزلاً دائماً .

يقول المسن عمر كحيل أن المقبرة هي المبيت الوحيد له ولعائلته ولأبنائه وأولادهم ، وأنهم لا ذنب لهم بالبيئة التي يعيشون بها، ولكن ذنب الزمن الذي اضطروا من خلاله أن يعيشوا داخل المقابر وبجوار الأموات، فإنني الآن بإستطاعتى أن أعرف من بداخل القبور وأسماء الموتى واحد تلو الأخر لاننى أعمل أحياناً "ساقياً" للقبور بأجر بسيط جداً من أهل المتوفى ، وأنتظر اليوم القريب الذي أسكن بداخل هذه القبور وأستمع لآبنائى وزوجتي وأحفادي ماذا يقولون بعد موتي،  فالعقارب ، والسحالي والزواحف شريك في حياتنا، وكل يوم لدغة جديدة .

غذائي اليومي "حبة بندورة " و رغيف خبز يابس، "تقول والدتهم المسنة "يسرى" التي أنهكها تعبً الحياة وتعب القلب أن إفطارها في رمضان هو عبارة عن حبة بندورة أشبه بأنها تالفة وخبزة يابسة تحاول لملمة عظام جسدها بهم " وتواصل "يسرى" قولها أنني أطالب أهل الخير وأطالب المسؤولين بالتدخل من أجل إنقاذ حياتنا وإخراجنا من تابوت الموت المتحرك، ونحن لسنا بحاجة سوى للقمة عيشٍ لي ولأطفال أحفادي الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في مقبرة الأموات .