خاص مجلة القدس العدد 327 حزيران 2016- دراسة- اعداد- خالد ابو عدنان- استراليا
يُصر الباحثون في التاريخ الفلسطيني الحديث على اعتبار عام 1948 هو عام النكبة، بل أنهم لا يعتبرون أن هناك أي حدث مهم في فترة الانتداب البريطاني يوازي يوميات النكبة. فمتى حدثت النكبة وكم استمرت وهل انتهت؟ هل هي فشل لثورة وطنية أم أنها إحدى أزمات القومية العربية؟
إن قراءة علمية لتاريخ تشكل الجماعة الفلسطينية بحاجة لإعادة كتابة تاريخ فلسطين في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، ندرس فيه الأسس التي شكلت الجماعة الفلسطينية وتركيبها الاجتماعي وهيكلية بنيانها الداخلي ومدى صلاحية هذا التشكل في مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين.
في البداية لا بد أن نقر أن فلسطين كانت جزءا من السلطنة العثمانية بقوانينها الإقطاعية وأعرافها المجتمعية، حيث كان 60% من أرض فلسطين ملكية خاصة لثلاثين عائلة إقطاعية، وباقي الأراضي المملوكة من الطبقات الصغيرة كانت تُدار وفق رغبة العائلات الإقطاعية أيضاً، وهذه العائلات كانت بحالة صراع فيما بينها على مناطق النفوذ، مما شكل تحالفات وعداوات بعضها مازال مستمراً لحد الآن.
هذا الوضع الاجتماعي شكّل مفهوم الجماعة الاجتماعية في فلسطين، فكانت مناطقية صغيرة مركزها الباشا الإقطاعي، تتشكل من عائلته ثم الفلاحين العاملين بأرضه، أي أنها جماعة الأسرة العشائرية ضمن مفاهيم علم النفس الاجتماعي، حيث أن ولاء الفلاحين للإقطاعي تستند لمفهومين أساسيين: الإكثار من الإنجاب لتوفير اليد العاملة الرخيصة الحالمة بأن عائلتها ستكبر وتصبح إقطاعية يوما بعد ارتفاع عددها وزيادة مدخولها، أما المفهوم الثاني فهو الثقافة الغذائية التي أفرزت تقسيم الغذاء إلى أكل باشاوات وأكل الرجال وأكل حريم، وكانت المنح الغذائية من الإقطاعي تحافظ على هذا التقسيم القسري للطعام، وللأسف أن الكثير من هذه القوانين الغذائية التراثية مازالت متداولة.
جاءت الثورة العربية الكبرى لتغير شيئا واحدا بمفهوم الجماعة الاجتماعية بالوطن العربي: ان السلطان لابد أن يكون عربيا لا تركيا، فكل مراسلات أمير العرب فيصل مع المناطق العربية كانت موجهة لمركز الجماعات العربية أي الإقطاعيين، بغية تحويل ولائهم للشريف العربي لا للسلطان التركي. بل ان مفاوضات باريس 1919 بين أمير العرب فيصل مع وايزمان الصهيوني بخصوص الأراضي الممكن تحويلها للصهاينة كانت تستند لرضى الإقطاعيين بقبول أرض بديلة أو تعويض مالي دون النظر لمصير الفلاحين كسكان أو السيادة السياسية للدولة، فلم يكن هناك فرق بين اللاذقية ويافا وصفد فكلها أراض عربية وملك الأمير العربي وأعوانه الإقطاعيين.
من جانب آخر اعتبر الأمير عبد الله أننا بحاجة لرعاية بريطانيا وحمايتها لأننا ضعفاء غير قادرين على إدارة شؤون دولتنا الحديثة، وآمن بضرورة قبول الشرط البريطاني بإقامة وطن قومي صهيوني في فلسطين دون ان يكون لهم حكم سيادي عليها، مما ساهم بتشكّل تكتل جديد يؤمن بالتعايش السلمي بين السكان العرب والمهاجرين الصهاينة تتضمن ضمانات بريطانية لبقائه أميراً على جنوب سوريا (الأردن وفلسطين) والحفاظ على مصالح الإقطاعيين العرب في إمارته، بل أن المنح الأميرية للأرض الميري (أرض كانت ملكية خاصة للحكومة العثمانية) كانت تخص الإقطاعيين الموالين للأمير عبدالله ومشروعه السيادي بمساعدة الإقطاعيين.
الغريب أن الانتداب البريطاني شكّل هيئات تمثيلية للشعب الفلسطيني تحافظ على مفهوم الجماعة المجتمعية دون أن تكافئ أنصار الأمير عبد الله أو تعاقب أتباع أمير العرب فيصل، بل انها سعت إلى توسيع الشرخ بين المجموعتين وهو ما شكّل تطورا مجتمعيا لمفهوم الجماعة المجتمعية في فلسطين، حيث ان الفريقين شكلا كتلتين متصارعتين داخليا وخارجيا مما جعل الإقطاعيين يشعرون بضعف نفوذهم وحاجتهم الماسة لدعم الأمراء الهاشميين. ومن جانب آخر بدأت طبقة الفلاحين تتقلص في ظل تصاعد الطلب على العمال في المدن لخدمة مشاريع الحكومة الانتدابية مما سبب بإعادة تشكيل مفهوم الولاء للإقطاعي المحلي وربطه بالإمبريالي الدولي.
وبهذا قال هربرت صاموئيل المندوب السامي البريطاني عام 1924: علينا في المستقبل القريب أن نركز على إنقاذ الروح الاقتصادية لفلسطين، إن النهوض الاقتصادي سيجلب معه مشكلاته، ذلك بأن الاضطرابات السياسية الخطرة لا تقع عادة حين تكون الأحوال في الحضيض: فحين تبدأ الأحوال بالتحسن، يتيح لنا هذا التعميم عشرة أعوام من الهدوء لتحويل الإقطاع العربي في فلسطين إلى إمبريالي دولي أو العمل على نقله خارج فلسطين، إما بالاستثمار بأوروبا والعالم الجديد أو بطردهم للصحراء المجاورة.
شكّل الوجهاء وكبار الملاك الزراعيين، منذ بداية الانتداب وحتى أواخر الثلاثينيات، ركيزة التحالفات البريطانية بهدف زيادة تبعية الفلاحين لتلك الفئة المعروفة باعتدالها، لكن إجراءات حكومة الانتداب الأمنية والصحية أدت إلى نتائج عكسية في الحياة اليومية وقادت إلى اهتزاز هيمنة الوجهاء وثقافتهم في المناطق الريفية. وقد سجل الصحافي الأمريكي فينست شيهان بعض أحداث العنف في القدس عام 1929 فقال: إن النخب العصرية مسالمة وتكره الفلاحين العرب أكثر من اليهود، وقال إنه سمع أحد النخب يصرخ ببهو الفندق: ابقوا هنا بحق الله.. وإلا قتلكم هؤلاء الفلاحون الهمجيون.
كان هناك ضغط بريطاني لإخراج الفلاحين من قراهم بغية إدخالهم الدورة الاقتصادية في المدن، بعضها جاء ضمن قانون الطابو الذي نزع ملكية 30% من أراضي الفقراء، وبعضها الآخر جاء تشجيعيا من خلال رفع أجرة العمال وخفض سعر السلع الزراعية المحلية. فمثلا كان القمح محصولا أساسيا في فلسطين إلا أن حكومة الانتداب كانت تستورد كميات كبيرة منه وتبيعها بأسعار رخيصة، مما تسبب بكارثة زراعية على الفلاحين وصلت لحد أن 80% من القمح المباع في فلسطين سنة 1926 كان مستوردا، ثم جاء التحول الغذائي إلى الأرز بسبب ارتفاع سعر القمح عام 1930، وهو تغيير مازال يعاني منه المجتمع الفلسطيني حيث أنه غيّر أكثر من 70% من الثقافة الغذائية. وفي بداية 1932 بدأت المدن الفلسطينية بمرحلة الوجبات السريعة وثقافة السندويش وهي قمة الإهانة لمفهوم الخبز والقمح في علم الاجتماع، لأن الخبز يعني وجبة خفيفة غير مشبعة بينما الطبيخ الدسم مع صحن الأرز هو الأكل الصحي أو أكل الخواجات.
لقد شكّلت ثقافة الخواجات منعطفا تاريخيا غيّر شكل الجماعة المجتمعية في فلسطين وأعاد إنتاجها ضمن استلاب عقائدي، جعل العمال يتفتتون إلى مجرد أفراد تابعين لرجال الأعمال الغربيين دون التمييز بين مستوطن صهيوني ومستثمر أوروبي تابع لمؤسسات الانتداب البريطاني. يُعرّف الاستلاب العقائدي بأنه: إقناع النفس بدونيتها، بأن عليها التكيف مع واقعها فهي ليست مهزومة، لكنها تعتقد أنها لا تستحق أن تتساوى مع الآخر لأنه أقوى منها، نتيجة لإيمانها بالسلوك الطقسي، الذي شرحه كونراد لورنز في الحديث عن العدوانية بين الحيوانات: ففي حالة القتال بين حيوانين من نفس الفصيلة، يقدم الحيوان الأضعف بعد أن تتضح له قوة خصمه، على سلوك طقسي يعبّر عن الرضوخ المستسلم، وهذا السلوك ذو طبيعة استرضائية، يؤدي إلى نتيجة مباشرة هي كبح عدوانية الحيوان الأقوى، مما يوقف القتال عند حدود غير مؤذية، وقد يؤدي أيضاً إلى بروز سلوك الصداقة بين الحيوانين وحلولها محل العدوان.
ومن أمثلة الاستلاب العقائدي هو الزي الموحد للعمال على أن يكون أوروبي المظهر، كما تم تحويل المنازل إلى نظام الشقق الصغيرة والغرف للعمال وبناء أحياء جديدة للميسورين الفلسطينيين على النمط الأوروبي مثل حي النزهة في يافا، في فصل تام بين التابع الإقطاعي والمتبوع العامل الفقير، بما حمل من إعادة إنتاج لمفهوم الجماعة المجتمعية في فلسطين لتطابق النمط الأوروبي. وهذا الاختلاف في الأحياء السكنية شمل كل مناحي الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وحتى أسلوب مقاومة المشروع الصهيوني. ولنا أن نلاحظ أن العصابات الصهيونية في حرب النكبة، هجّرت كل سكان الأحياء الراقية ودفعتهم للسكن بالأحياء الفقيرة مثل العجمي في يافا ووادي النسناس في حيفا ضمن خطتها لإجبار الفلسطينيين على الاستلاب العقائدي للنظام الجديد.
خرج العديد من نخب رأس المال الاجتماعي التي هاجرت طوعاً في فترة الثلاثينات إلى القاهرة وبغداد وبيروت ثم عمان ودمشق في عقد الأربعينيات بحثاً عن أماكن أقل اضطراباً وأفضل للاستثمار، أما خروج الحاج أمين الحسيني أثناء ثورة 1936 فهو مشابه لخروج الدلاي لاما. بعد موت أمير العرب فيصل عام 1933 عظم شأن الحاج أمين، وأصبح يمثل جماهير عربية تشمل المشرق العربي كله، بل ان هتافات "أمين أمين العرب" امتدت لتشمل بغداد وحلب وبيروت فشكّلت هاجسا للقيادات العربية أنه خليفة أمير العرب فيصل، إلا أنه سعى لأكثر من حشد الصفوف بل عمل جاهداً ليكون جزءا من قيادة دول المحور التي تعاملت معه كممثل للأمة العربية بمشرقها ومغربها.
إن أي قارئ منصف لتاريخ الحرب العالمية الثانية يلحظ دوراً حقيقياً لحليف قوي لدول المحور، والأدهى من ذلك أن انتصار الحلفاء لم يمكنهم من محاكمة الحاج أمين كمجرم حرب أو إبعاده عن تمثيل فلسطين، بل انه أصبح شخصية بارزة على مستوى العالم الإسلامي وكان استقباله الرسمي يضاهي استقبال الملوك في البلاد العربية والإسلامية رغم النكبة وضم الأراضي الفلسطينية للمملكة الأردنية الهاشمية، وأن العديد من الباحثين يؤكدون أنه المحرّض على الاغتيال السياسي لرموز الكتلة النشاشيبية الموالية للأمير عبدالله والبعض يؤكد أنه المحرّض على قتل الأمير عبد الله نفسه.
الحاج امين الحسيني أرسل العديد من الكوادر للتدرب على التخطيط العسكري بل انه أقنع هتلر بإرسال ضباط ألمان للتدريب الميداني في فلسطين وقد سجّل الانتداب البريطاني مقتل 200 ألماني من ضباط التخطيط العسكري والاستخبارات في فلسطين خلال فترة الأربعينيات، بل انه حتى حرب النكبة سجّلت مقتل 45 ضابطاً ألمانياً من أتباع أمين الحسيني، وأن حجم تسليح الفلسطينيين فاق توقعات الدول العربية حيث أن شهداء الجيوش العربية كلها لم يتجاوز 3000 شهيدا بينما شهداء المقاتلين الفلسطينيين والمتطوعين من خارج فلسطين فقد وصل إلى 11 ألف شهيد.
قال الجنرال كلوب باشا قائد الجيش العربي الأردني في حرب النكبة: لولا جنون المقاتلين الفلسطينيين لما تحركت قواتنا خارج محيط مدينة القدس، لكننا كنا نعمل أغلب الوقت لفض الاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لقد استغل الإسرائيليون تهور المقاتلين الفلسطينيين للسيطرة على أرض أكبر من نصيبهم في قرار التقسيم. كما أبلغ رئيس الوزراء الأردني توفيق أبوالهدى، نائب المندوب السامي إليك كيركبرايد في عمان بأنه: لا يرى خيارا في الحقيقة سوى التقسيم... طبعاً لن يوافق أي عربي علانية بمن فيهم أنا على التقسيم، ولكنهم سيقبلون به جميعاً إذا فرضته بريطانيا على الفلسطينيين وأسقطوا مشروع الحسيني.
في جميع الدراسات التاريخية يتم تحميل الحاج أمين الحسيني مسؤولية النكبة دون سواه من القيادات العربية، بل ان البعض يرى أن الخلاف بينه وبين الأمير عبد الله سبّب ضياع فلسطين، وهنا تُقرأ الصورة بشكل غير منطقي، فالحسيني لم يكن ضد الثورة الهاشمية بل ان أمير العرب فيصل نفسه اعتبر مجهود الحسيني في إنجاح الثورة موازيا لكل مجهودات أعيان دمشق وحلب، وأن الحسيني عقد خلال فترة العشرينيات سبع مؤتمرات فلسطينية لمبايعة أمير العرب فيصل في حين أن باقي السوريين انتفضوا عليه بعد دخول القوات الفرنسية دمشق. أما معضلة الباحثين كانت بعدم استيعابهم أسس رأس المال الاجتماعي الفلسطيني، فالحسيني تبنى الفكر الوطني القطري بقيادة النخب الإقطاعية مع الإيمان بالوحدة العربية ضمن فهمه الكونفدرالية بين الأقطار العربية، والنقطة الثانية أن الحسيني وجد الدعم السعودي والمصري المتخوفين من مشروع الأمير عبدالله التوسعي، وأيضا أن الحسيني لم يسع لفتح خطوط الاتصال مع دول المحور، بل كانوا هم من سعى إلى ذلك، حين بدأ المبعوثون الطليان بالاتصال بالحسيني بعد موت أمير العرب فيصل مباشرة.
من هنا نرى أن الجماعة الاجتماعية في فلسطين تشكلت بعد الحرب الأوروبية الأولى وقامت بتمثيل فلسطين بالمؤتمرات العربية تحت قيادة أمير العرب فيصل، الذي سمح للنخب الفلسطينية بالذهاب للدول الأوروبية ومناقشة مطالبهم بعد فشل محادثاته مع البريطانيين والفرنسيين ثم وايزمان ممثل الصهيونية. وفي فترة العشرينيات كان الانتداب البريطاني يتعامل مع ممثلين منتخبين عن الشعب الفلسطيني، وهذه النخب هي التي أسست الأحزاب السياسية في فترة الثلاثينيات، وكل هذه الأحزاب والنخب السياسية كانت تطرح فلسطين كقضية وطنية لها بعد قومي مساند. كما أنها استمرت بعد النكبة ولم يسقط مقعد فلسطين بجامعة الدول العربية، بل سجلت فلسطين عضوا عاملا بمنظمة العالم الإسلامي ومنظمة عدم الانحياز وكان يمثلها الحاج أمين الحسيني حتى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وهنا أسجل اعتراضي الكبير على دراسة صور الموت الفلسطيني للأستاذ إسماعيل ناشف حيث يقول: إن اختفاء الجماعة الفلسطينية بعد النكبة حتى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في منتصف الستينات سعيا لانتزاع إدارة الموت الفلسطيني من العدو الصهيوني. فقد تفتت المجتمع الفلسطيني لجماعات عدة، تعيش كل منها على هامش مجتمع آخر، تتعلق به ويقصيها بدوره عن مركزه. فالمجتمع الفلسطيني يمر منذ بدء تشكله على النمط الحديث بعمليات مكثفة من تفكيك وإعادة تشكيل، قلما نرى مثله في العصر الحديث.
هنا نذكر أن العمليات العسكرية لم تتوقف طيلة فترة الخمسينيات بل ان مصطلح فدائي ظهر بعد النكبة مباشرة وهو مصطلح كان يطلقه الحسيني على الفدائية، بل أن المساعدات المالية التي كان يتلقاها الحسيني من دول الخليج كانت من أجل العمل الفدائي، وأساس الخلاف بين عبد الناصر والحسيني أن عبد الناصر طلب وقف العمل الفدائي، وكان هذا السبب الرئيس بانتقال الحسيني إلى الشام وبيروت، ثم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون بإمرة عبد الناصر. إننا نملك الكثير من التحفظات على أداء الحسيني من رفضه للعمل الجماعي وطبقية أعوانه وتصفية خصومه السياسيين وتذبذب تحالفاته، إلا أنه حافظ على تماسك الجماعة الاجتماعية داخل إطار الوطنية القطرية وهو مركزها جماهيرياً ورسمياً وأيضاً ضمن صلاحياته في الجامعة العربية التي لم يتنازل عنها للشقيري إلا بعد ضمانات استمرار العمل الفدائي.
إن دراسة الجماعة الاجتماعية في فلسطين وتطورها لا بد أن يكون جزءا من تطور الفكر الوطني القطري بالدول العربية التي مرت بظروف المجتمع الفلسطيني ذاتها. كل المشرق العربي انتقل من حكم الإقطاع المدعوم من السلطان التركي إلى أمير العرب فيصل ثم الثورات الفلاحية العمالية، وإن مجرد تسجيل أن الثورات السورية في فترة الثلاثينيات كانت عمالية فلاحية، فإن الثورة الفلسطينية 1936-1939 كانت عمالية فلاحية أيضاً، بل أن القيمة المضافة عند المجتمع الفلسطيني كانت باستخدامه لرموز فلاحية بامتياز مثل الكوفية كزي للثوار ومناقيش الزيت والزعتر، وقضية تحريم شرب شاي بالحليب تشبها بالإنكليز سببه أن إعدامات الثوار كان يسبقها حفلات شرب شاي بالحليب في مدينة الرملة، وهذه حوادث عابرة مقارنة بالهيكل العام للرموز الفلاحية والعمالية للثورة. وخير دليل على ذلك توزيع الأغذية على محتاجين من قبل اللجان الشعبية المرتبطة بهيكل الثورة، فكانت بالمدن عبارة عن حمص وفلافل، وبالقرى جبنة بلدية وزيت وزعتر، وقد استمر توزيع هذه الأغذية طيلة ثلاث سنوات، ولم يذكر أي من مسجلي التاريخ الشفوي للثورة أي هتاف إلا لأمين الحسيني والاستقلال السياسي بكل النواحي والمدن الفلسطينية، مما يؤكد أنها ثورة شعبية وطنية بحتة بقيادة الحاج أمين الحسيني.
لم يسجل التراث الشعبي حدثا أقدم من استشهاد محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير- فهم باكورة الاستشهاد الوطني بامتياز. أما من سبقهم من شهداء فهم شهداء الثورة العربية. وتبع ذلك إعلان نابلس بضرورة حمل السلاح ومقاومة الانتداب والعصابات الصهيونية بعد فشل كل التحركات السياسية خلال فترة العشرينيات وبداية استخدام العنف ضد الفلسطينيين. أي أن القيادة الفلسطينية سعت لقبول دور الضحية خلال تلك الفترة، وكان تحركها السياسي يستند على ضرورة رفع الظلم من باب إيمانها بعدالة قضيتها ومشروعية مطالبها وارتباط مصيرها بالمحيط العربي، إلا أن البريطانيين تبرأوا من كل وعودهم، بل أن عنفهم ضد الفلسطينيين أخذ شكلاً تصاعدياً بعد إعلان إمارة شرق الأردن وبداية الحديث عن "استبرار" معاقبة الفلسطينيين الرافضين لتقاسم الأرض مع الصهاينة. يُعرف "الاستبرار" أنه تبرير العدوان على الغير من خلال تأثيمه، ومن خلال وضع كل اللوم عليه وتحميله مسؤولية المأزق العلائقي، عندها يصبح هو المذنب وهو مصدر الخطر والتهديد على حالة السلم العلائقي. بل ان الطرف الأقوى يؤمن ببراءة ذاته وأنه ضحية لتهديد خصمه الضعيف الهمجي مما يجعله يستوحش بعدوانيته ضمن مفهوم الدفاع عن الذات.
تسبب ذلك السلوك بتصعيد الفلسطينيين وتيرة العنف وتقديم الروح دفاعاً عن الحقوق الوطنية، وقد مجد الشعب المقاومة واعتبر الثوار هم من سيفرض التغيير الجذري، بل ان التغني بالقسام وإبراهيم الكبير والعديد من الشهداء الذين حملوا السلاح استجابة لأوامر الحسيني، جعل الشعب يتصور الثوار كأنهم أسطورة قادرة على تحقيق المستحيل.
أما مسألة الانتحاري أو الاستشهادي فقد انتظرت حتى عام 1937 حين بدأت العمليات الاستشهادية في الثكنات العسكرية البريطانية. إلا أن أي دراسة صادقة لقضية الاستشهاديين سوف توضح أنها لم تكن فردية بل كانت ضمن عمل منظم يسعى لإلحاق الضرر بالعدو وتخفيف الضغط على الثوار، فهي مدروسة مرتبطة بالثورة وحتى الذين فشلوا بتنفيذها حوكموا لأنهم جزء من الثورة. لم يكن لأي منهم مطالب شخصية بل ان مطالبهم كانت ضد الاستيطان وضد التقسيم وباقي مطالب الحسيني والقيادة الفلسطينية.
بالعودة لدراسة صور الموت الفلسطيني للأستاذ إسماعيل ناشف حيث يقول: لا يموت الإنسان بحسب هواه، وإنما طريقة الموت مرهونة – إلى حد بعيد – بشكل النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. إن الموت منصة لاستشراف الحياة، حيث يكشف الناظر منه إليها عن أشكالها وطرائق عملها. إن النظام الاستعماري يحتكر موت الفلسطيني لأنه يعني استمرار النظام ما دام الموت مستمرا. إن التهجير واللجوء جاءا نية لا تكتمل إلا بالعودة، أي أن ممارسة الموت الجماعي تاريخياً تحمل تشكيلة من الولادات الفلسطينية المختلفة. فحتمية المقاومة المسلحة تنبثق من عملية العودة الساعية إلى تقويض إدارة شؤون الموت الفلسطينية على يد النظام القائم على منطق العنف التشكيلي. وإن كثافة الموت كماً وكيفاً تؤدي – على نحو سببي – إلى كثافة التحرر أرضاً ومجتمعا.ً فقد اكتملت هزيمة المشروع الوحدوي العربي بنكسة 1967 مما رسخ مفهوم القطرية الوطنية ببلاد العرب، أما الوطنية الفلسطينية فقد تحملت وحدها مسؤولية إزالة آثار النكبة والنكسة.
قد يكون لي فهم آخر لمفاهيم عديدة قالها الأستاذ إسماعيل مثل الموت وإدارة شؤونه والنظام بفرعيه الاستعماري والنظام المقاوم له. لكنني أؤكد أن استنتاجه سيكون رائعاً إذا كان يتحدث عن فنزويلا أو جنوب افريقيا حيث تشكل النظام الاستعماري بالدفع للمركز الإمبريالي أي هدفه استغلال الموارد من أجل زيادة الانتاجية، فهناك كان النظام الاستعماري يروّض المجتمعات ليحولها إلى عبيد رضى يقبلون كل ما يريده النظام الاستعماري ومجرد التفكير بمقاومة النظام كان يؤدي للقتل بدم بارد، حيث قتل النظام الاستعماري أكثر من 300 مليون من سكان العالم الجديد وإفريقيا في زمن المد الاستعماري.
أما النظام الاستعماري الإحلالي الصهيوني حالة فريدة من نوعها، كونه يسعى لترحيل اليهود المؤمنين بعليا- أي العودة- إلى أرض الميعاد من الدايسبورا- الشتات اليهودي، ولم يكن مشروعهم سهلاً لولا اضطهاد اليهود في أوروبا، خاصة روسيا القيصرية ثم ألمانيا النازية، وبعدها اضطهادهم بالدول العربية. ففكرة النظام لا تعتمد على الإنتاجية الاقتصادية، بل على القومية الأمنية، لأنها تهدف إلى حماية اليهود من الاضطهاد أو بمعنى آخر الموت. فالصهيونية عملت جاهدة لطردهم من نظامهم الاجتماعي الطبيعي إلى نظام تجربة القومية الأمنية التي تم بناؤها على أسس اشتراكية قاعدتها العمل العبري، سرعان ما تحول إلى نظام معقد اقتصادياً أساسه الأمن القومي. فسعت إسرائيل لما وراء الاكتفاء الذاتي- أي توفير مخزون احتياطي يكفيها لمدة سنتين. أي أنها كما قال موجان سبورلوك: الخوف من العدو مركز ثقافة المجتمع وما ولاؤه للقيادة سوى طلبه للحماية وتعزيز الأمن.
أما النظام الاجتماعي العربي الفلسطيني فهو جزء من النسيج العربي، فهتاف فلسطين عربية لم يغب عن الشارع الفلسطيني طيلة المائة عام المنصرمة، مع تناغم نفس المطلب في الجوار العربي. إن العرب الذين سقطوا دفاعاً عن فلسطين أعلى من ذهابهم للدفاع عن أي قطر عربي آخر. ومن جانب آخر فإن الثقافة المجتمعية في الجوار العربي هي ثقافة حاضنة للفلسطيني ضمن الفكر الوحدوي الذي طرحته الأحزاب القومية والأممية والدينية في فترة ما بعد النكبة.
وإذا كان هناك ذوبانا لبعض مكونات الشخصية الفلسطينية في تلك المرحلة، فهي لم تتحول إلى شخصية مصرية أو لبنانية، بل ان كل الأقطار العربية كانت تمر بمرحلة تصاعدية جامعة اسمها نحن عرب، مما دفع الشباب الفلسطيني للانخراط بالعمل السياسي للأحزاب ذات البعد القومي. وبما أن النظام الاجتماعي أكبر من التنظيم السياسي فقد حافظت الشخصية الفلسطينية على خصوصيتها، بل نشرت تراثها بالدول العربية، فما عاد أحد في بلاد العرب لا يعرف الكنافة النابلسية والمسخن والدبكة الفلسطينية واللهجات الفلسطينية والزجل الشعبي وأيضاً شعراء فلسطين ومثقفيها وكل مكونات النسيج الاجتماعي. لا يوجد تفتت بنظامنا بل أن النكبة سحبت الأمة العربية نحو تبني القضية الفلسطينية وتحول العرب لفلسطينيين، وهو ما أطلقت عليه الثورة الفلسطينية الجبهة الشعبية العربية المساندة لثورة الفلسطينية.
لا نرى أن إدارة شؤون الموت الفلسطيني خاضعة للنظام الاستيطاني الصهيوني وفق منهجية علم الاستغراب، بل ان النظام الصهيوني يسعى لتفريغ الأرض من سكانها قدر المستطاع، لأسباب عديدة أهمها قوة النظام المجتمعي الفلسطيني أو ما يسمى بالحس الوطني العالي للشعب الفلسطيني وكذلك العربي إزاء أرض فلسطين، فهي جزء من المقدّس بالمعتقد الأسطوري الجمعي، وهو غير قابل للتبديل أو التحويل. أما السبب الثاني أن النظام الصهيوني لا يسعى لاستعباد الفلسطينيين، بل انه يعتبرهم أنجاساً لابد من إبعادهم عن التخالط الحر بالمجتمع الصهيوني، فهو لم يفرض لغته أو ثقافته أو دينه على الفلسطينيين كما فعل النظام الاستعماري الامبريالي في العالم الجديد على سبيل المثال. ومقارنة الإجراءات الصهيونية لتوطين يهود الدول العربية، نرى أنها فرضت عليهم اللغة العبرية الأوروبية لا الشرقية وتم تبديل أسمائهم لأسماء أوروبية وتغيير أغلب شخصياتهم المجتمعية، وهذا لم يحدث للفلسطينيين، بل ان ضعف سلطة النظام الاستيطاني لم تمنع يهود المغرب الفقراء من العودة للمغرب دون تسجيلهم ضمن الهجرة العكسية (يريدا) لأن النظام مقتنع أنهم حتماً سيعودون "لعليا" باسرائيل.
أما السبب الثالث هو قصر عمر الدولة العبرية وخوفها المستمر من التفتت بسبب الهجرة العكسية المعروفة بيريدا، وهي حركة فكرية قوية بدأها اليهود الألمان في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم، ففي الدول التي تعتمد على المهاجرين الجدد مثل أستراليا وكندا، فإن الجيل المهاجر يبقى يحمل اسم مهاجر، أما نسله من الجيل الثاني فهو المواطن الحقيقي، وبمقارنة عدد المهاجرين والمواطنين وفعاليتهم بالهدف المركزي للنظام الاستيطاني أي الفكر القومي الأمني، فإننا نرى أن المهاجرين الجدد هم الركيزة الأساسية للنظام بينما المواطنون الحقيقيون للنظام يعتبرون أن حياتهم الطبيعية يجب أن تكون بعيدة عن مناطق الخطر، فهي جاءت نتيجة نضال آبائهم من أجلهم وعلى المهاجرين الجدد توفير مناطق آمنة لأبنائهم. ومع الأخذ بالاعتبار أن هناك 20 ألف إسرائيلي يتركون إسرائيل سنوياً خلال العقدين الماضيين لإيمانهم بفكر "اليريدا" المتصاعد عند المواطنين الحقيقيين في النظام الاستيطاني الصهيوني.
قال الشهيد الرمز ياسر عرفات: يريدوني إما أسيراً أو إما قتيلاً وإما طريداً.. لا، أنا أقول لهم شهيداً.. شهيداً.. شهيداً.. هنا اختصار للمرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فالخيارات إما القتل أو الطرد. إلا أن الفلسطيني يأبى انتظار من يقرر مصيره، فهو يؤمن بضرورة حمل السلاح دفاعاً عن الوطن وعن ثبات الشعب الفلسطيني في أرضه، فقرار المقاومة لم يسقط ولم يكن الموت الفلسطيني يوماً بيد النظام الاستيطاني الصيهوني لأننا ما زالنا نقاوم وهو لا يريدنا إلا خارج أرضنا.
وإذا كان هدف النظام الاستيطاني الصهيوني أساساً هو تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها العرب كما ورد في وعد بلفور، فكل الشروحات البريطانية لوعد بلفور لم تنف ضرورة منح الحركة الصهيونية أرضا بلا شعب إلى شعب بلا أرض، وهناك دراسات عديدة للجولات المكوكية للقيادة الفلسطينية بعد الحرب العالمية الأولى لبريطانيا وفرنسا وعصبة الأمم لشرح مصير الشعب الفلسطيني إذا ما طُبق وعد بلفور، كلها وصلت لطريق مسدود على الصعيد الدبلوماسي. وبعدها بدأ النضال السلمي بمظاهرات عام 1919 وما تلاها بالمدن الفلسطينية معلنة رفضها لنكبة الشعب الفلسطيني وإصراره على مقاومتها ضمن بناء الجماعة الاجتماعية الفلسطينية على أسس الوطنية القطرية ذات البعد القومي العربي الوحدوي.
وحتى الآن ما زال النظام الاستيطاني الصهيوني يقضم مزيدا من الأرض الفلسطينية في نكبة ما زالت مستمرة لم تتوقف، وفق الفهم الفلسفي العميق لكلمة النكبة وارتباطها بتطبيق وعد بلفور، فمسألة الحدود المفتوحة القابلة للتوسع هو أساس الفكر الصهيوني، وهذا التوسع لا بد أن يكون على حساب تفريغ الأرض من سكانها، وهو لا يميز بين أرض محتلة عام 1967 أو عام 1948، فمشاريعه التوسعية لمصادرة الأراضي في بئر السبع توازي بخطورتها ما يحدث بالمناطق المتنازع عليها ب "يهودا والسامرة" أو اسمها الأردني "الضفة الغربية"، فرغم المجهودات الدبلوماسية لوضع اسم فلسطين إلا أن الإعلام الدولي مازال يذكرها بالأراضي المتنازع عليها وحتى الإعلام العربي يذكرها باسمها الأردني قبل النكسة أي الضفة الغربية. فالنكبة ما زلنا نعيشها كل يوم وما زالت مستمرة وما زلنا نقاومها ونعمل على إيقاف تمددها السرطاني.
أما نحن فنعتبرالمخيمات بالشتات العربي جزءا من الوطن لم يذب بالوسط العربي المضيف، بل هو تأكيد على أن النكبة مستمرة ولا بد من مقاومتها بكل الوسائل الممكنة، فلا يوجد شيء يلزمنا بالعنف أو يمنعنا من استخدام العنف، إنما هي خيارات مفتوحة نستخدمها ضمن ظروفنا وفهمنا لمراحل النضال الوطني. فالخيار العسكري والعمل الفدائي لابد أن يصل لمرحلة النضال السلمي، وإذا كان النظام الاستيطاني يسعى للصدام المسلح فهذا نابع من نظرية الخوف المزمن الذي يعيشه بسبب عبثية نظريته القومية للأمن ذات النظام المغلق المرفوضة في عصر العولمة. كما أن خيار النضال السلمي حقق نتائج جيدة رغم صعوبة تطبيقه، أما دعاة الكفاح المسلح فلا بد أن يوفروا متطلبات استمراريته وأولها الوفاق العربي وإقامة قاعدة ارتكاز له.
من جانب آخر يرى دعاة حل الدولة الواحدة أن حل السلطة الوطنية ضرورة لاستمرار النضال، لأن السلطة الوطنية تشكل نظاما مواليا للنظام الاستيطاني الصهيوني، وهو ما يجعل إدارة شؤون الموت الفلسطيني تحت سيطرة النظام الاستيطاني الصهيوني، مما يدفع الشباب الفلسطيني للعمليات الاستشهادية رفضاً للوصول لمرحلة "عبيد الرضى" للحركة الصهيونية. النظام الاستيطاني الصهيوني لا يسعى للوصول إلى مرحلة عبيد الرضى، كما أن السلطة الوطنية غير تابعة للنظام الاستيطاني الصهيوني، بل انها تملك استقلالية متوسطة مقارنة بالعديد من الدول المستقلة، وأن ارتباطها بتبعية نسبية للنظام الاستيطاني الصهيوني لأننا لم نصل لمرحلة الاستقلال بعد، وأن حل السلطة لا يعني أن الاحتلال سيتحمل مسؤولياته بتوفير كل ما يلزم المجتمع الفلسطيني، فقبل تشكيل السلطة كانت المملكة الأردنية من يقوم بهذا الدور، وهي ما زالت تقوم بهذا الدور بمنطقة القدس الكبرى بتقديم كافة الخدمات التعليمية والصحية وكل جوانب الحياة.
إن اتفاقية أوسلو قسّمت الأرض الفلسطينية لثلاث مناطق هي ألف تُدار بواسطة السلطة الفلسطينية وباء وهي تُدار بهيئة مشتركة فلسطينية إسرائيلية وجيم وهي تُدار بواسطة الجيش الإسرائيلي، ورغم أن انتفاضة الأقصى غيّرت الكثير من مساحات الأقسام الثلاث تبعها الجدار العازل، إلا أننا لا نرى أي تحمل لمسؤولية الاحتلال اتجاه السكان بالمناطق المحتلة المعروفة اصطلاحاً مناطق جيم. كما أن السلطة لا تملك أن تمنع أي نشاط مقاوم بمناطق جيم، وبنفس الدرجة في منطقة القدس ومنطقة الحرم الابراهيمي. ومن جانب آخر فإن الثورة الفلسطينية لم تكن يوماً ضد خيار الدولة الواحدة على أن تكون ديموقراطية تؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية بين مواطنيها. أما نقطة الخلاف مع بعض من يطرحها هو أن الثورة الفلسطينية تشترط إنهاء آثار النكبة لقبول حل الدولة الواحدة أي حق العودة اللاجئين وتعويضهم عن استخدام أرضهم وممتلكاتهم.
إن ميلاد الوطنية الفلسطينية كان ضرورة ملحة لمقاومة وعد بلفور مسبب النكبة الوطنية وهي المحرك الفعلي لإدارة شؤون الموت الفلسطيني، ضمن فهمنا للحرب الشعبية طويلة الأمد التي تمنح كل فلسطيني حق المقاومة بالطريقة التي يراها مناسبة، فلم تكن ثورة 1936 كلها عملا عسكريا، بل كان هناك نضال سلمي ودبلوماسي، كما العصر الذهبي للكفاح المسلح أثناء وجود الثورة الفلسطينية في لبنان أنتج كما هائلا من النضال السلمي الشعبي، إن الوطنية الفلسطينية تشكلت واكتمل نموها وهي توازي الوطنية القطرية في البلدان العربية وتتناغم معها بالأهداف والطموحات، فلا يمكن أن يذوب الفلسطينيون تحت أقدام الصهاينية، بل انهم مازالوا يقاومون ويتحكمون بإدارة شؤون الموت الفلسطيني.
لقد كان المرحوم الدكتور إبراهيم أبو لغد شخصية فلسطينية ذات آفاق واسعة جعلته يصل للعالمية بعلومه، عاش الحياة الفلسطينية كاملة حيث بدأها بمدينة يافا التي عاش فيها طفولته وغادرها مهجّرا لبيروت مع قوافل اللاجئين ثم إلى نابلس وبعدها للولايات المتحدة الأميريكية التي لم يعد منها إلا عام 1992، حيث عاش بين نابلس ورام الله. ولما اقترب أجله توجه إلى مستشفى المقاصد بالقدس برفقة اثنين من أصدقائه، حمّلهم وصية صعبة يريد أن يدفن في يافا وفي حال منعت إسرائيل ذلك أن يُحرق جسده ويُذرّ رماده في مقبرة يافا. بعد وفاته أجلسه أصدقاؤه بالكرسي الخلفي للسيارة ووضعوا على عينيه نظارة، ثم ذهبوا إلى يافا وهناك بالمقبرة التي كانت ملعب طفولته دفن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها